أمريكا وإيران: تلويح بايدن بالعصا والجزرة من دون خطوات حسن نيةضمانة لعودة المتشددين وانهيار الاتفاقية النووية

إبراهيم درويش

انشغل المعلقون الأمريكيون في الفترة الماضية بالحديث عن «عقيدة» الرئيس جوزيف بايدن في السياسة الخارجية، وحاولوا استكشافها في علاقاته الجديدة مع دول الخليج وإيران بالتحديد التي عبر عن رغبة بالتفاوض معها من جديد بشأن الاتفاقية النووية «خطة العمل الشاملة المشتركة» التي وقعها باراك أوباما عام 2015 وألغاها دونالد ترامب عام 2018. وشعر أوباما أن الاتفاقية التي حققها هي تتويج لسياسته الخارجية في المكتب البيضاوي على مدى ثمانية أعوام لكنه لم يرض حلفاءه في إسرائيل والخليج الذين انتظروا رحيله بفارغ الصبر.

وجاء ترامب الذي وصف الاتفاقية النووية بانها «أسوأ اتفاق في التاريخ» وقرر تحويل السياسة الخارجية وركز على علاقاته مع السعودية ودول الخليج وبناء تحالف ضد إيران. ولهذا الغرض قام بإلغاء الاتفاقية في 2018 وأعاد فرض العقوبات على إيران وتبنى سياسة «أقصى ضغط» على أمل أن يدفع إيران من جديد نحو الطاولة للتوصل إلى اتفاقية جديدة لا تعالج الطموحات النووية الإيرانية فقط بل وتأثير طهران بالمنطقة وبرامجها من الصواريخ الباليستية. وكانت سياسة ترامب التي أشرف عليها وزير الخارجية مايك بومبيو تهدف لشل الاقتصاد الإيراني وبالدفع وإن بطريقة غير مباشرة نحو تغيير النظام. ورغم ما عانى منه اقتصاد إيران والسخط الشعبي على الأوضاع الاقتصادية وما تبع ذلك من تأثيرات فيروس كورونا على الوضع الاقتصادي والصحي، فإن إيران تبنت استراتيجية «أقصى مقاومة» أو «أقصى صبر» وزادت من تخصيب اليورانيوم وخرقت شروط الاتفاقية بعدم استخدام أجهزة الطرد المركزي، وهي اليوم أقرب للقنبلة النووية مما كانت عليه عندما مزق ترامب الاتفاقية. واستطاعت إيران تجاوز سنوات ترامب العجاف بثمن باهظ، وها هي تنتظر مع أمريكا بايدن، ولكن كيف؟

العصا والجزرة

ورغم محاولة الإدارة الجديدة المراوحة بين سياسة أوباما «الجزرة» وترامب «العصا» واستخدام كل منهما إلا أن التحركات الأولية لم تنجح، ففي الشهر الماضي رفضت إيران الدعوة الأمريكية للحوار قبل رفع العقوبات عنها، وهددت بمنع المفتشين الدوليين التابعين للوكالة الدولية للطاقة الذرية والقيام بجولات مفاجئة لولا اتفاق اللحظة الأخيرة والمؤقت الذي عقده مدير الوكالة رفائيل غروسي والذي قدم تسوية مؤقتة يستمر فيها التفتيش بطريقة معينة.

وفي الوقت نفسه قرن بايدن دعوته بالرد العسكري على الجماعات الموالية لإيران في العراق والتي شنت هجمات صاروخية على قواعد عسكرية ينتشر فيها الأمريكيون. ولهذا فوجئ الإيرانيون عندما قامت أمريكا بضرب جماعات موالية لهم على الحدود السورية- العراقية. وكانت الضربة الأمريكية محسوبة. وبدد بهذه العملية المواقف التي رأت أن بايدن سيغض الطرف عن أفعال إيران لأنه يحاول دفعها للتفاوض معه والعودة للاتفاقية النووية. وترى إليس لابوت في «فورين بوليسي» (2/3/2021) أن بايدن أخذ وقته للرد على الهجمات التي حدثت في منتصف شباط/فبراير ولكنه تحرك بهدوء، فلم تكن هناك خطوط حمراء لا تنفذ كما فعل أوباما في سوريا ولا تغريدات غاضبة أو تهديدات خطابية بالحرب، كما كان حال ترامب بل مجرد ضربة موجهة بعناية على معبر سوري تستخدمه الميليشيات المدعومة من إيران لشن هجمات عبر الحدود على القوات الأمريكية. و «كانت بمثابة تحريك بيدق متعمد في لعبة الشطرنج للإدارة، ولم يكن هجوما متهورا. كانت الضربة بمثابة تحذير من أنه لا ينبغي العبث مع أمريكا، لكنها لم تكن شديدة لدرجة أنها أغلقت الباب أمام الدبلوماسية» وفي الواقع، شن بايدن الضربات في نفس الوقت الذي عرضت فيه إدارته استئناف المحادثات مع إيران بشأن إنقاذ الاتفاق النووي لعام 2015 ما أرسل رسالة واضحة إلى طهران مفادها أن الهجمات على الأفراد الأمريكيين أو حلفائها لن يتم التسامح معها، لكن هذا الحوار لا يزال نهاية اللعبة. وتقول إن بايدن يريد العودة إلى الصفقة التي تخلى عنها ترامب – بل وعرض الدخول في حوار بقيادة أوروبا قبل أن تعود إيران إلى الامتثال للقيود النووية للاتفاق – لكنه يدرك أن القيام بذلك دون الاستجابة لأنشطة إيران الأخرى المزعزعة للاستقرار في المنطقة لا يحسن فرصه.

رسالة

وكما لاحظ ماكس أبوت في «واشنطن بوست» (26/2/2021) فهجمات الجماعات الموالية لإيران سواء في العراق أم اليمن على المصالح الأمريكية أو الأراضي السعودية ليست جديدة، ولكن عدم اتخاذ موقف منها كان سيعطي هذه الجماعات فكرة عن ضعف بايدن، ومن هنا جاء الرد حيث قام بايدن بهذه الضربة برسم خطوطه الحمراء لطهران وأنها لا تستطيع التصرف بدون خوف من العقاب ولا يمكنها استهداف الأمريكيين. لكن بايدن أكد أنه لا يريد الحرب بل يريد العودة للمفاوضات النووية. ويجمع هنا ما بين الدبلوماسية وسياسة الاحتواء الهادفة للحد من نشاطات إيران في المنطقة، وهذا بخلاف نهج ترامب الذي خرب الدبلوماسية وتحدث بلغة شديدة من دون تقديم استراتيجية متماسكة ضد نشاطات إيران بالمنطقة. ويقول بوت إن بايدن متشدد في مواقفه بل وأشد من ترامب خاصة فيما يتعلق مع الحلفاء بالمنطقة. ولا يمكن الحكم على الإدارة الحالية فهي في أيامها الأولى وقد يحدث الكثير في مقبل الأيام، ولكنها تبدو هادئة في تحركاتها وتحاول موازنة المصالح الأمريكية والتركيز على ملفات حقوق الإنسان. ولكن المثالية والواقعية تتصادمان أحيانا وتبقى المصالح.

الخروج

ورغم حديث فريق بايدن عن تراجع أهمية الشرق الأوسط في أولويات السياسة الخارجية، فقد استغرقت المنطقة معظم هموم الإدارة في شهرها الأول، فهي وإن لم تهتم كثيرا بالملف الفلسطيني-الإسرائيلي سوى محاولة العودة للوضع القائم، إلا أن فريق بايدن أصدر قرارات كثيرة حول المنطقة بدءا من اليمن الذي كان أول موضوع في السياسة الخارجية تحدث عنه بايدن ودعا إلى ضرورة وقف الحرب فيه.

وقال وزير الخارجية أنتوني بلينكين إن أولويات السياسة الخارجية لإدارة بايدن ستركز أولا على، آسيا والمحيط الهادئ، وثانيا، التقارب مع الحلفاء الأوروبيين، وثالثا، نصف الكرة الغربي الآخر، وأخيرا الشرق الأوسط الذي حاول الرؤساء الأمريكيون السابقون تغييره بطرقهم الخاصة أو الابتعاد عنه. فقد حاول جورج دبليو بوش فرض الديمقراطية بغزو العراق وأوباما من خلال التفاوض مع إيران والتهديد بمعاقبة نظام بشار الأسد، أما ترامب فقد جاء بوعد إنهاء الحروب اللانهائية، ولم يفعل شيئا وغادر البيت الأبيض و14.000 جندي أمريكي موزعين في منطقة الشرق الأوسط. أما إيران فهي قريبة من القنبلة النووية أكثر مما كانت عليه في 2018 وتأثيرها توسع في المنطقة.

ولا يفتأ المعلقون الأمريكيون والمسؤولون السابقون يذكرون كل إدارة بأن الشرق الأوسط لم يعد مهما كما كتب مارتن إنديك، السفير الأمريكي السابق في إسرائيل العام الماضي في صحيفة «وول ستريت جورنال» بعنوان «هل يستحق الشرق الأوسط كل هذا العناء؟». وفي مقال لستيفن كوك، من مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي بمجلة «فورين بوليسي»(26/2/2021) قدم فيه لعبة تخمين حاول فيه تحديد الدول التي يجب أن تتعامل معها أمريكا مستبعدا تركيا ومصر من الدول الواجب التعامل معها مثل إسرائيل والإمارات والسعودية وإيران. وبرر ضرورة الاهتمام بالأخيرة أن الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها وقف البرامج النووية التي تقوم بها تتم عبر الدبلوماسية. ويرى أن المشروع النووي الإيراني قد تطور عما كان عليه 2015 بسبب فشل ترامب. ورغم رغبة الإدارة بتحقيق اتفاقية جديدة تشمل على برامج الصواريخ الباليستية وتحد من نشاطات إيران ووكلائها بالمنطقة، لكن طهران لن تتخلى عن هذه بسهولة.

العائق

يظل موضوع تخفيف الالتزامات الأمريكية في الشرق الأوسط حلما يراود الرؤساء الأمريكيين وصناع السياسة في واشنطن. وفي مقال نشرته دورية «فورين أفيرز» العام الماضي وكتبه جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الحالي ودانيال بينيم، مساعد وزير الخارجية لشؤون الجزيرة العربية، أن التحول عن الشرق الأوسط لا يعني الخروج منه ولكن هناك حاجة لدبلوماسية ذكية تسمح بتخفيض مستمر للقوات العسكرية لكن المعوق الرئيسي هو إيران. ومن بين أول القرارات لبايدن هي دعوته للحد من تأثيرها في المنطقة ومطالبته بوقف الحرب التي تدعم فيها المتمردين الحوثيين في اليمن. وتشير مجلة «إيكونوميست» (3/3/2021) إلى المشاكل التي تواجه استئناف الحوار الأمريكي-الإيراني، ذلك أن كل طرف يحاول اكتشاف ما يريده الطرف الآخر ويناور مع أن الفترة الزمنية المتبقية للانتخابات الإيرانية في حزيران/يونيو قصيرة. وهناك إمكانية قوية لظهور حكومة متشددة غير راغبة بالتحاور مع الأمريكيين ويصعب على إدارة بايدن التعامل معها. وهو ما يدعو لفترة انشغال في الربيع. ويقول علي فائز من مجموعة الأزمات الدولية في بروكسل «لقد شاهدت هذا الفيلم من قبل» وتذكر كيف طلب كل طرف في الاتفاقية الأولى التحرك أولا و «عندما أنظر لطاقم الشخصيات في هذه الإدارة أعجب لماذا تركوا الاتفاقية تنهار أمام ناظريهم». وحتى وقت قريب كان رئيس فائز هو روبرت مالي المفاوض في عهد كلينتون وأوباما وأصبح الآن مبعوث بايدن لإيران. وقبل مغادرة مالي منصبه نشرت المجموعة تقريرا ضمنته توصيات للإدارة الحالية منها التزام أمريكي بدعم القرض الذي طلبته إيران من صندوق النقد الدولي لمواجهة كوفيد-19 وجدول زمني للمفاوضات وعودة إيران للالتزام بالاتفاقية النووية بالإضافة لتخفيف العقوبات عنها. وبعد الانتخابات يمكن للإدارة متابعة اتفاق «أطول وأقوى» ويتضمن تطبيعا اقتصاديا وضمانات طويلة الأمد لبرنامج نووي سلمي والحد من برامج إيران في الصواريخ الباليستية.

ويرى مساعدو بايدن أن مراجعة الدبلوماسية مع إيران يمكن أن تخلق قاعدة تقوم من خلالها أمريكا الدفع باتجاه الحوار بين دول المنطقة لإنهاء حروب الوكالة. وتريد الإدارة الحالية البدء في اليمن والذي يلقي بظلاله على ضمير الكثير من المسؤولين الحالين في الإدارة. وزاد بايدن من الجهود لوقف الحرب التي ترى الأمم المتحدة أنها خلقت أكبر كارثة إنسانية في العالم. وعين بايدن مبعوثا خاصا لليمن وهناك إشارات عن تقدم، على الاقل بين الأطراف الخارجية. وينتظر ان يظهر المتحاربون اهتماما بوقف الحرب. وبحسب رؤية سوليفان، مستشار الأمن القومي، فهناك حاجة لإطار جديد للمنطقة يتم من خلال حل الخلافات بين الأطراف إلى جانب الدبلوماسية النووية، وهذا سيمنح أمريكا فرصة لتخفيض وجودها العسكري.

الفرصة تضيق

ومشكلة بايدن أن نافذة الفرصة ضيقة أمامه إن لم يتحرك سريعا، وكلما تأخر ففرص انهيار الاتفاقية النووية 2015 قائمة. وفي الوقت الذي تطالب فيه إيران برفع العقوبات الجديدة عليها بما في ذلك تلك التي منعتها من تصدير النفط إلا أن الأصوات المتصاعدة في إيران والمطالبة بالعودة إلى النشاطات النووية قد تعقد من مهمة بايدن.

ويرى والي نصر في «فورين أفيرز» (2/3/ 2021) أن الحديث عن إصلاح ما خربه ترامب سهل أكثر من التطبيق. فبايدن والقادة الإيرانيون تحكمهم السياسات المحلية. وأدت سياسات ترامب لتقوية التيار المتشدد الذي وإن حرص على حل المشاكل الاقتصادية وتخفيف العقوبات إلا أنه يرى أهمية للوقوف أمام أمريكا التي فرضت العقوبات الاقتصادية وقتلت قائد فيلق القدس قاسم سليماني وعالم الذرة محسن فخري زادة الذي اغتاله عملاء للموساد. ولو لم تقم إدارة بايدن بإجراءات تخفف العقوبات فستمضي إيران في تخصيب اليورانيوم بمعدلات زائدة عن المسموح به حسب الاتفاقية وستستخدم القنبلة النووية وجماعاتها الوكيلة بالمنطقة كورقة ضغط على أمريكا. وفي النهاية يرى نصر أن السياسات المحلية والسياسة الخارجية متداخلة في إيران كما في الولايات المتحدة. وفي عام 2020 فاز المتشددون في الانتخابات البرلمانية، أما المعتدلون الذين دعوا للتفاوض مع أمريكا فقد خسروا. ومن هنا فالعودة الناجحة للاتفاقية النووية وتخفيف العقوبات قد تحد من سيطرة المتشددين وربما أثرت على انتخابات حزيران/يونيو. وستكون نتائج الانتخابات بمثابة مؤشر عن السياسة الإيرانية في السنوات الخمس القادمة. وبعد ذلك يمكن لبايدن العودة للتفاوض حول التزام إيران الكامل بالاتفاقية في مناخ أفضل. وعلى بايدن اتخاذ إجراءات من طرف واحد تهدف لتخفيف الأوضاع المعيشية وبناء الثقة وتؤدي لدعم الإيرانيين والتواصل البناء مع الولايات المتحدة. والبديل عن كل هذا انهيار الاتفاقية مما يفتح المجال أمام مواجهة عسكرية لا يريدها الإيرانيون أو الأمريكيون. وبدون خطوات عملية فلن يرى الإيرانيون اختلافا بين بايدن وسلفه ترامب.

المصدر: القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى