ربما لم يكن سؤال الأرشيف من الأسئلة التي طرحتها الثورة السورية في أشهرها الأولى، أو حتّى في عاميها الأوّلين. ذلك أن أنظار السوريين وآمالهم كانت معلّقةً تماماً بسقوطٍ وشيك للنظام، قد يحدث بين ليلة وضحاها؛ وهو ما يبرّر أنّ أغلب الجهود كانت تنصبّ في مصلحة الحاضر، مع قليلِ اهتمامٍ بالمستقبل.
ولادةُ موقع “ذاكرة إبداعية للثورة السورية” (https://creativememory.org/) عام 2013 تؤشّر على تغّيُّرٍ في هذه الرؤية، إذ بات السؤال عن بقاء النظام لسنوات قد تطول أمراً محتملاً، بل أكثر احتمالاً من رحيله السريع، وباتت مسألة جمْع الأعمال الإبداعية الكثيرة، التي أُنتجت حول الثورة وفيها، ضرورةً ليس للحاضر وحده، بل للماضي والمستقبل أيضاً. هذه الضرورة هي واحد من أسباب وجود الموقع، الذي يقول القائمون عليه في زاوية “مَن نحن” إنّه يهدف إلى “توثيق كل أشكال التعبير الفكرية، الفنيّة منها وتلك الثقافية الشعبية، في زمن الثورة”، وذلك لإتاحة الإنتاج الكثيف، التوثيقي والإبداعي، للثورة السورية، “في مكان واحد مخصّص له”.
بهذا المعنى، يصبح الموقع “ضرورة حتمية للتعريف بمعاني الثورة ووقائعها، لمعاصريها وصانعيها، للأجيال القادمة وللعالم أجمع”. ويستحضر القائمون على الموقع، في تعريفهم بمشروعهم، تعبيرَ “كتابة التاريخ المعاصر”، الذي يُحيل إلى ما بات يُعرف، في علم التاريخ، بـ”تأريخ الراهن” أو “تأريخ الزمن الحاضر”. ويقدّم الموقع، الذي تتجدّد موادّه وتتحرك على صفحاته بشكل يومي تقريباً، مِثالاً تكنولوجياً عن كيفيات كتابة هذا التاريخ الذي يُصنَع الآن وهنا.
يأخذ الموقع شكلاً بسيطاً أمام زائره للمرة الأولى. فصفحة الاستقبال تقترح عليه اختيار تصفّحه بواحدة من ثلاث لغات (العربية، الإنكليزية والفرنسية)، وما إن يشير الزائر إلى واحدة من هذه اللغات حتى تتغيّر اللغة التي يُكتب بها اسم الموقع في مربّعٍ وسَط الشاشة. كل هذا على خلفية تتغيّر، في كل زيارة، وتُبرز صوراً لأعمال فنية من أرشيف الموقع.
يضمّ هذا الأرشيف أكثر من عشرة آلاف مادة، متوفّرة باللغات الثلاث، وتشمل هذه المواد مختلف حقول التعبير الفني والإخباري والنقدي. هكذا، يقترح الموقع مربّعاتٍ يمكن الضغط على أحدها لتحديد ما إذا كنّا نريد رؤية تصاميم أو صور أو لوحات فنية أو أعمال خطّية أو إذاعية أو سينمائية، إضافة إلى الطوابع والغرافيتي والمسرح والفيديوهات والقصص المصوّرة والموسيقى والنقد والمنشورات الافتراضيّة وغيرها. قائمةٌ كبيرة، يختلف عدد المواد المتوفّرة في كلٍّ من فروعها (أكثر من 1200 صورة للافتة، على سبيل المثال، وأكثر من 900 صورة لغرافيتي، بينما ثمة 32 تسجيلاً إذاعياً فحسب).
الموقع مكدّسٌ، إذاً، بالمواد الأرشيفية، وهو ما يشرح إملاءه الشاشة بالتفاصيل ما إن نمرّ من صفحة الاستقبال إليه، وامتلاءه بالأقسام والفقرات والمداخل الفرعية في جزئه الأيمن، وبالأعمال المختارة كتذكير ببعض المواد المتوفّرة في جزئه الأيسر. واللافت أنّ توزيع ألوان الطيف على أسماء الأقسام في الجزء الأيمن، يقابله غيابٌ للألوان في القسم الأيسر، والذي يحتاج الزائر للتأشير على واحد من الأعمال المعروضة فيه لتأخذ مساحة أوسع، وسط الشاشة، بألوانها الأصلية.
لا بدّ من الإشارة (والإشادة) إلى نشاط الموقع بشكل يوميّ تقريباً، عبر تغذيته للأرشيف وتنويعه المواد المعروضة منه على صفحاته، وكذلك توخّيه الوضوحَ في ما يخصّ مصادر مواده، وسياسته التحريرية، ومشاريعه، إضافة إلى شركائه ومموّليه. غير أن هذا النشاط لا يشمل كل أقسام الموقع، الذي يبدو بعضها فقيراً بالمواد وقليل التحديث، كما هو حال قسم “لقاء” الذي يعود تاريخ آخر مادّة فيه إلى ربيع 2020. تُضاف إلى هذه الملاحظةِ ملاحظةٌ أُخرى، حول البطء الشديد لعمليّة البحث، إذا ما أراد الزائر البحثَ عن عملٍ ما، والتي قد تأخذ أكثر من دقائق قليلة…
المصدر: العربي الجديد