“من يبني بيوتًا تدوم إلى الأبد؟ من يقطع عهدًا يدوم إلى الأبد؟ الناس يرثون، يقتسمون؛ فأي إرث يدوم إلى الأبد؟ البغضاء، حتى البغضاء، أتبقى إلى الأبد؟”
بهذا المقتطع من ملحمة جلجامش يستهل الكاتب والروائي “علاء الدين حسو” البناء الأول لروايته المعنونة “البناء السابع” ليثبّت بدايةً حقيقةَ بدهيّة الموت وأنّ كلّ شيء إلى فناء، الملك، القوة، الشباب، وحتى المشاعر السلبية بما فيها الكراهية ستخفت نارها وتختفي، وحدها الحكاية تبقى لتخبرنا عن كلّ ما فات ولتمنح ما مضى رفاً مذهباً في متحف الذاكرة.
ووحده الروح من يملك حصانة الخلود بعد عودته من زنزانة الجسد، ذاك ما سيتكرّر بصورٍ عديدة في هذه السرديّة التي لن تعوزها المتعة ولن تكفّ عن إقحامنا في متاهاتها الحكائية، لتغدو الرواية عمارة من طبقات سبعٍ من الحكايات تتواشج وتتراسل ويومئ أحدها للآخر، ولتكون الحكاية تأريخاً مشهديّاً يوثّق غرابة الحاضر وتشوّهاته الأحفوريّة كي يمنحه تأشيرة للعبور إلى الذاكرة بوصفه حكاية مستعادة ومكررة، لكنّه أبداً لن يعبر إلى المستقبل.
المستقبل، لدى الراوي “محمود” بطل رواية “علاء الدين حسو”، حكاية ناقصة تستحقّ النبوءة المستبشرة، يقتضي سرّها أسطرة العاديّ والنبش عما تمّ دفنه حيّاً من إنسانيتنا، ونبذ كلّ ما يقيّد حقيقتنا المنذورة للحبّ والحياة، المستقبل يكمن في اللوح المفقود وفي ذلك السرّ الذي يحجب الباب السابع، لن تكتمل الأسطورة دون أجنحة خرافية تعلو على حقيقة بؤسنا، ودون العبث بملامح الواقع وشخوصه الهجينة، وبغير المجاز الذي يمكن له أن يستر ضعفنا وهشاشة أرواحنا، فخلف ذاك الباب تتربّص العنقاء التي ستجتاز الأودية السبعة وتركل الجحيم وصولاً إلى جبل قاف.
ما بين البناء الأول المتمثل بالمقبرة والبناء السابع/السرّ تبدو أبنية الكوخ والمسرح ودار البهجة والمدرسة والمشفى مفارخ للخوف والتدجين والخرافة والجهل يتوازع إمارتها صبيان شيخ المغارة بدءاً برئيس المخفر مروراً بالإمام والمدير وصولاً إلى التاجر.
بالرغم من مدلولات الأسماء الصريحة ومهامها المعلنة تبرز مهمّة الكاتب لتأسيس عمارة الوعي مستفيداً من منطق التضادّ والنقائض، فالمقبرة التي بناها الغريب وحصّنها بالأسوار فباتت مصدراً للخوف وتذكيراً بالنهايات بل وتهديداً بعواقب الثورة والتمرّد، ستكون مكاناً لدفن عجزنا وتردّدنا وخوفنا غير المبرّر ممن هو مثلنا وليس بمنأى عن قدر الموت. إنّ نبش القبر هنا فعلٌ ثوري يرمي للتشبث بالحياة، يرفض دفن الحلم وكل ما لم يمتْ حقاّ، ويدعونا لاستعادة ما انتزع منّا، ومما هو حق حالت دون استرجاعه مخاوفنا واستسلامنا لعوامل القهر والظلم والاستبداد وهي عوامل طارئة غبير قابلة للتأبيد، لقد أتاح نبش قبر جثة علياء عودة الروح للحلم وأمكن لجسد الرغبات الانعتاق والطيران.
البناء السابع هو الصيغة السحرية التي تنتظر الكشف للخلاص من مشنقة الوهم، وهو السرّ الذي لم يعد سراً بانكشاف محلّه والطريق المودي إليه، ولعلّ اللوح المفقود يمثل عقداً مع الحياة لإنساننا المهدور يقرّ بحتميّة فناء القبح وخلود الجمال، وباباً لفردوس الحرية مفتاحه يتوزّع على سبعة مردة أوّلها الثورة على الذات المكبلة بالخوف.
الرموز الكثيرة التي تحفل بها صفحات الرواية وما يصاحبها من إشكالية الفهم والتفسير، تدفع بالقارئ لعدم الاستغراق مطولاً في الدلالات والثيمات التي تحيل إليها أسماء الأماكن والأشخاص التي لم ترد عبثاً أو عفو الخاطر، وإنما محملة بكثيرٍ مما لا يرغب الراوي في الإفصاح عن مقاصدها، فيتركها لمخيلة المتلقي هكذا معلقة على حبال التأويل المتعدّدة والمشتبكة، مضببة ومتلفعة برداء الخرافة والغموض، بل إنّه حين يريد إشباع فضول قارئه وإخباره معلومة ما، أو بيان مآل شخصية أو حدث بعينه يلجأ إلى ما يسمّيه المنام ليتحرّر من عبء حقيقة ما يحوزها، وربما ليتخلص من مسؤولية إفشاء السرّ وتبعاته الخطرة، أو لعلّه لا يملك اليقين الكافي حولها.
علياء الأنثى/ الرمز والحلم المشرع على احتمالات شتى، بؤرة النور والتنوير والانبعاث الذي لا يكتفي بالإيماض والتلويح، إنما، وقد تخلّص من سلاسل مادته وانتزع حريته وتحوّل إلى أيقونة للخلاص، يتعدّى كل ما سلف ويطرد الخوف والغرباء وشيخ المغارة والمخفر ليغدو يقيناً يتجاوز كمائن الشكّ وواقعاً يتعدّى الترقّب والانتظار. إنّها السرّ الذي يفضي إلى افتضاح كنهه وفتنته البناءُ السابع.