يتكرّر مشهد التحضير للانتخابات الرئاسية الجديدة، للمرة الثانية على التوالي بعد بدء الثورة السورية، وظروف الحرب التي أعلنها النظام السوري على معارضيه منذ عام 2011. وعلى الرغم من تدهور واقع الحال لسوريين كثيرين، من مؤيدي الأسد ومن معارضيه، إلا أن النظام عقد العزم على متابعة سلوكه في التغاضي عمّا آلت إليه ظروف البلاد بعد الحرب التدميرية التي خاضها لاجتثاث الثورة ومطالبها وحاملها الشعبي، ومنعكسات هذه الحرب على قدرات النظام الداخلية والخارجية، وظروف احتلال البلاد من جيوش الحلفاء له روسيا وإيران، أو لمعارضيه تركيا والولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن جيش إسرائيل الذي يستقر في الجولان، أجمل بقاع سورية وأغناها بيئة وشعباً.
وحيث يستعد الأسد لانتخابات جديدة مضمونة النتائج منتصف العام الجاري، تبحث روسيا، في ملفاتها، عن مرشّح يلعب دور “الكومبارس” من بين من تقدّمهم للسوريين تحت صفة معارضين، ليس بهدف سحب البساط من تحت “المعارض الموعود”، بل لقطع الطريق على محاولات شخصيات معارضة تسعى إلى أخذ مبادرة الانتخابات في مناطق خارج سيطرة النظام، والشروع في تنظيم انتخابات متساوقة مع الأسد، ليس بهدف إنصاف السوريين، ولكن لتصبح ورقة قوة في يد تركيا لاحقاً خلال المفاوضات المقبلة لمجموعة أستانة، لتقاسم حصص ما بعد حقبة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في سورية. ففيما تتعامل روسيا مع اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف على أنها مجرد ذرّ الرماد في عيون المجتمع الدولي، فإنها لا تخفي مسعاها الحقيقي، وهو لإعادة الاعتبار لمسار أستانة، لأنها من خلاله تستطيع عقد مزيد من التفاهمات، لرسم حدود جديدة بين جيوش الحلفاء أنفسهم في أستانة، وفي الوقت نفسه، الخصوم في مواقع السيطرة على الأرض.
في كل مرة، تقدم روسيا لزوارها من “المعارضين” شرحاً مفصلاً عن موقفها من دون مواربة، فهي تؤكد لهم أن الانتخابات الرئاسية ستجري وفق بروتوكولات سورية السابقة كما حدث في عام 2014، وأن هذا لا يعوق متابعة جلسات اللجنة الدستورية في جنيف، ذات الصلاحية المفتوحة زمنياً، كذلك تمنح المعارضة وعداً أنه في حال توصلهم إلى دستور جديد موافق عليه من أطراف اللجنة الدستورية (الأمر المستبعد تماماً)، فإنها ستكون مع انتخابات رئاسية جديدة “مبكرة”، وهو ما طرحته مع وفود منصتي القاهرة وموسكو وغيرهما.
لم يكن النجاح في تعطيل وفد النظام أعمال اللجنة الدستورية في جولتها الخامسة، هذه المرة أيضاً، جديداً على مبعوث الأمم المتحدة، غير بيدرسون، وهو إذ شعر بخيبة الأمل متأخراً، فذلك يعبّر عن مدى سطحية مباحثاته خلال زياراته لدول محور أستانة ودمشق والقاهرة، التي سبقت الجولة، ولم يمنح أي إجابة تفيد بأن اللجنة ذاهبة إلى صياغة الدستور، بالشراكة مع وفدي المعارضة والمجتمع المدني، فحيث لا تحسب دمشق وفدها أنه يمثل حكومتها، فهي لا تتعامل مع اللجنة على أنها ذات بعد قانوني، يمكنها من تعديل أي مادة دستورية، وستكتفي اليوم ومستقبلاً باعتبار الجلسات لنقاش شفهي، لا قوة تنفيذية لصياغته وتسميته دستوراً.
اعتمد النظام في الجولات السابقة على قوة تأثير حليفته روسيا في تبرير خداع الأمم المتحدة، وتعطيل أعمال اجتماعاتها، لكنه هذه المرة يعتمد على فراغ موقع الولايات المتحدة، وانشغال إدارته في ترتيب أولوياتها، ومقاربتها الملف السوري، في تبعيته المباشرة للملف النووي الإيراني الذي لا يزال قيد البحث والتداول، وهو الموضوع ذاته الذي أعطى فرصة لوفد المعارضة لكي يبتعد عن لغته “التهادنية” التي وصلت، في جولات سابقة، إلى حد التملق لوفد النظام، وإعلان رئيس الوفد، للمرة الأولى، أنه “لا داعي لوجودهم في اللجنة الدستورية ضمن الأجواء غير المبشرة داخل الاجتماعات”، وهو ما يمكن تفسيره أنه أيضاً قراءة واقعية للموقف الأميركي الجديد الذي لا يستعجل الانخراط في المسألة السورية، قبل البتّ بقضيته الأساسية، إيران.
لن تطول غيبة اجتماعات اللجنة الدستورية كثيراً، لكنها ستتلازم مع الحملة الانتخابية لبشار الأسد دولياً، وسيقدم خلالها النظام، وفق الرؤية الروسية، بعضاً من متطلبات تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، ومنها إطلاق سراح بعض المعتقلين، وفتح الأبواب لعودة اللاجئين، والسماح بدخول المساعدات إلى بعض المناطق ذات الاهتمام الدولي، وتعديلات في قانون الإدارة المحلية لتوسيع الصلاحيات المناطقية، وقد تبدأ عودة بعض الأسماء المعروفة إلى سورية لممارسة دور معارضة داخلية تحت عنوان الإصلاح السياسي، ما يعني أن هدف الحملة الانتخابية المجتمع الدولي لإعادة صياغة علاقته بالأسد، لا صياغة علاقة الأسد بالسوريين، من مؤيدين أو معارضين.
مرّت انتخابات الرئاسة السورية، في 3 يونيو/ حزيران عام 2014، بكل سلاسة، على الرغم من التصريحات الدولية، حيث وصفها مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بأنها “غير شرعية”. وانتقدها الأمين العام للأمم المتحدة السابق، بان كي مون، بأنها محاولات إجراء انتخابات في ظل ظروف الحرب الأهلية، وهي حسب تصريحه “تتناقض مع نص بيان جنيف وروحه”. إلا أن بشار الأسد، مدعوماً من روسيا وإيران، مضى في “انتخاباته” من غير منافس يذكر (بغضّ النظر عن التمثيلية الباهتة للمرشح الثاني حسان النوري).
وأعلن الأسد فوزه بأصوات السوريين بنسبة تزيد على 88%، على الرغم من الحرب وتشريد الناس ومئات آلاف من الضحايا، ولم تأخذ أي جهة دولية موقفاً رسمياً من تلك النتائج، وبقي تمثيله في الأمم المتحدة معترفاً به حتى اللحظة. وما حدث سيتكرر عام 2021، على الرغم من التصريحات الدولية، أو بيانات الشخصيات المعارضة، فما لم توقفه خمسة جيوش تحتل بلده وقراره، لن توقف مسيرته معارضة مشتتة في مشاريعها وأهدافها، وحتى في أسباب ثورتها.
نجح الأسد في الحفاظ على كرسيه، وتمرير عشر سنوات بعد الثورة، وفشلت المعارضة في صناعة موقف موحد واحد من مشروع سورية المستقبل، وقبلت بتجميع مشاريع متناقضة مع بعضها في وفد تفاوضي واحد، تحت مسمى وفد المعارضة، في مقابل مشروع واحد “متماسك” للنظام، حدّده منذ اليوم الأول للثورة، الأسد أو نحرق البلد. وفعلياً بقي الأسد، لكنه أيضاً أحرق البلد وأهلها، ولم تتأخر قيادات المعارضة في اقتباس تجربته في حكم البلد إلى الأبد، على الرغم من صيحات إسقاطها كما صيحات إسقاطه.
المصدر: العربي الجديد