حرصت إدارة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن على مواكبة لحظة تنصيبه الرسمية بإطلاق رسائل مباشرة إلى إيران، أدخلت فيها جملة من المتغيّرات البارزة على أطراف التّفاوض معها حول مشروعها النّوويّ إذ انضمت إلى الأطراف التّقليدية السّابقة دول الخليج وإسرائيل.
تعقّدت الأمور كثيراً بالنسبة لإيران مع هذه المتغيرات الجوهرية، وباتت مجبرة على التّفاوض من دون امتلاك أوراق فاعلة، خاصة مع شروع نظام الأسد في ترسيم حدود النفوذ في سوريا على حسابها عبر تفاهم مع الإسرائيليين يتم برعاية روسية وقبول أميركي.
وجود إيران في سوريا دخل في مدار التدويل، وباتت مجبرة على دفع أثمان باهظة مقابل الحفاظ على الحد الأدنى منه. حلفاء الأمس تحوّلوا إلى أعداء تتناقض طموحات شرعنة بقائهم على رأس السّلطة مع استمرار وجودها في سوريا بصيغته المسلّحة أو بالصّيغ الأيديولوجية والاقتصادية وغيرها.
بناء على ذلك يمكن القول إن الوجود الإيرانيّ في سوريا يحيا فترة انحسار متسارع لن يمكنها من استخدام الورقة السّورية في التفاوض، أي أنها لن تكون فعّالة.
الأمر نفسه ينطبق على السّاحة العراقية، وإن بشكل مختلف، إذ ما زالت إيران تتمتّع بنفوذ ولكنّه كذلك معرض للتّقلص لأنّه لم يعد يخدم مصالح فئة وازنة من العراقيين بل تحوّل إلى بنية تنكيل عامّة تطول عموم الشّعب العراقيّ.
مدخل إيران لتفعيل النّفوذ في العراق ليس سوى الإرهاب، وهو خيار شديد الخطورة عليها وعلى مؤيديها كذلك، لأن علاقتها به صارت تحت الأنظار، وكذلك لأنها لا تستطيع التّحكم به وإدارته وتوظيفه على هواها، لذا فإن هذا المسار، الذي يشير انفجار بغداد الأخير إلى رغبة في اعتماده أو الاستفادة منه، انتحاري، لذلك يرجّح أن اللّجوء إليه لن يكون شاملاً بل مقنّناً.
كذلك يمكن القول: إنّ الورقة اليمنية سحبت من يد إيران بعد التّدويل الواسع الذي حظيت به وبعد إدراج إدارة ترامب الحوثيين على قوائم الإرهاب، وهو قرار وعد وزير خارجية بايدن أنتوني بلينكن بإعادة النّظر فيه لأسباب إنسانيّة يمكن لإيران الاستفادة منها جزئياً، ولكنها ستمنعها كذلك من القيام بتصعيد واسع.
ولكن تعقيدات اللّحظة البايدنية والإنهاك الذي أصاب الحزب بعد مشاركته المكلّفة في سوريا، لم يعد يسمح بتوظيفه في استجرار تصعيد حربي مباشر، يعقّد الأمور ويجبر الأطراف كافة على التّفاوض انطلاقاً من أزمة لا يريد أحد دفع كلفتها، بغض النظر عن موازين القوى.
مثل هذا الخيار لم يعد قائماً في ظل ارتباط الحزب المباشر بإيران، وتغيير قواعد اللّعبة إسرائيلياً وأميركياً، بحيث سينعكس أيّ حراك يقوم به حزب الله من لبنان مباشرة على إيران التي قد تتعرض لهجوم اسرائيلي مباشر لن تستطيع أميركا بايدن لجمه، وربما لن يكون أمامها مفرّ من دعمه وتغطيته.
لذا تسود في لبنان نغمة فصل المسارات والإيحاء باستقلالية قرار الحزب عن إيران وخصوصيّته اللبنانية، وقد روّج أخيراً بعض الكتاب المحسوبين على حزب الله لهذا السيناريو، كما أن خطابات نصر الله المتتالية كانت تمهد لهذه الخطة المعدّة لملاقاة مرحلة بايدن بخلق ثنائيّة استمرار ولاء حزب الله الأيديولوجي لإيران مع استقلالية القرار وخصوصيّته.
جاءت هذه الخطة لتسمح للحزب بأن يخلق ورقة تفاوض قويّة لإيران انطلاقاً من المجال اللبناني التي يشكّل خط تماس مع إسرائيل التي تعد اللّاعب الأبرز على ساحة التّفاوض، ولكنه يسعى إلى حصر تبعات أي تصعيد في لبنان وتجنيب إيران أيّ كلفة والسّماح لها لاحقاً بلعب دور الوسيط واستثمار هذه الوساطة في التّفاوض.
كل محاولات نقل السّلاح الاستراتيجي المخزّن في سوريا إلى لبنان، وعمليات حفر الأنفاق ومصانع الصواريخ في جميع أنحاء البلاد، وتخزين المواد المستعملة في صناعة المتفجرات وغيرها من السّلوكات التي راكم الحزب حصيلتها، تصب في صالح تأمين شروط نجاح هذه الخطة وتمكينها.
ما تجدر ملاحظته أن تدمير لبنان على رأس سكانه الذي سيكون النتيجة المباشرة للشروع في تنفيذ هذا المشروع ليس مدرجاً في حسابات إيران ولا في حسابات الحزب، ويرجح أن البايدنية المطعّمة بالنكهة الأوبامية ستعيد صيغة تغطية المجازر بالأشعار والكلام الجميل من دون أي تحرك ميداني للجم أي مسار كارثي.
عملية التّفاوض مع إيران بالنسبة للإدارة الجديدة ليست سوى آلية ضبط وليست آلية ضرب وتفكيك، ولذا فإن لجم ميليشيات إيران ليس على رأس أولويات إدارة بايدن، بل إنّ جوهر الاهتمام ينصب على النووي ويليه السلاح الصاروخي والبالستي.
الدفع في سبيل إدراج الميليشيات الإيرانية في عداد أي صفقة محتملة لن يكون جهداً أميركياً مباشراً، بل سيترك لمن تصفهم إدارة بايدن بحلفائها أي دول الخليج وإسرائيل.
يعني ذلك أن تشغيل حزب الله والدفع بالتّصعيد إلى واجهة المشهد سوف يكون الخيار الذي ستعتمده إيران في الفترة القادمة بطريقة منضبطة في العراق واليمن وكذلك في سوريا، ولكن التصعيد المباشر والأكثر حدة يرجح أن ينطلق من لبنان الذي تحوّل إلى بؤرة تجميع لكلّ خردة إيران الصاروخية والأيديولوجية.
بعد الإخفاق الإيراني في التفاوض بالدّم السوري تسعى حالياً إلى التفاوض بالدّم اللبناني، وتجهّز هذا البلد الصّغير المنكوب بحزبها “الإلهي” لخراب غير مسبوق بعد أن أفقدته مكانته ووظيفته، وجعلته في نظر العالم ليس أكثر من مخزن سلاح ووكر إرهاب ومخدرات، وفساد وتبييض أموال.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا