اليوم العشرون من كانون الثاني / يناير 2021 أثبت النظام الأميركي السياسي والدستوري حقيقة نظرية نقرأ عنها نحن المثقفون العرب ، ونسمع عنها باستمرار، ولكن لم يكن ممكنا لنا أن نراها بشكل ملموس ، لولا حماقة الرئيس دونالد ترامب في محاولته الطائشة للتمرد على نواميس الدولة الأميركية، ونظامها الديمقراطي .
لقد رأينا من خلال هذه الفضيحة النادرة مدى ضعف الرئيس الذي يرأس أقوى دول العالم أمام القانون والدستور والنظام ومؤسسات الدولة العميقة ، ومدى محدودية سلطاته وقدرته على تجاوز القواعد الراسخة ، أو حتى تحديها .
ومع أن الصحف ووسائل الاعلام الاميركية العملاقة لم تكشف حتى الآن ما الذي دار في السر بين ترامب ومؤسسات الدولة العميقة خلال الأيام والساعات الحرجة ، لا سيما بعد مهاجمة الغوغاء لمبنى الكونغرس ، إلا أن الاعتقاد يذهب الى ترجيح أن تكون ( الدولة العميقة ) قد رسمت للرئيس العابث خطا أحمر، وحذرته من عواقب تخطيه أو تحديه ، خصوصا بعد أن طلبت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي من قيادة الجيش عصيان أوامر ترامب ، إذا حاول إشعال حرب في الخارج ، أو تمادى وواصل نفخه في نيران الفتنة العنصرية والحزبية في الداخل ، نظرا الى أن سلوكه وردات فعله المباشرة على تفوق منافسه جون بايدن قد نحت منحى العنف المسلح المنفلت من عقال القانون ، وألمح الى أنه سيرفض التسليم بهزيمته ، والاعتراف بفوز منافسه الديمقراطي ، وحرض أنصاره في الشارع على النزول الى الشوارع ، وهم جماعات تتألف من اليمين المتطرف ، وأنصار العنصرية البيض . ولم يتردد في التحريض على مهاجمة الكابيتول فاستجاب له أنصاره ، وحدث ما حدث ، بطريقة أساءت فعلا لصورة وهيبة الولايات المتحدة في العالم ، وهزت صدقية نظامها الديمقراطي ، كما هددت بنشوب عنف داخلي خطير بين الجماعات الأميركية المتعددة الأعراق والثقافات والطبقات ، تحمل في ثناياها إمكانية أن تتطور لشكل من أشكال الاحتراب الأهلي العنيف ، وانهيار مؤسسات الدولة الدستورية والفيدرالية والديمقراطية .
لقد أوضحت هذه الحادثة الحية والواقعية كم هو قوي وصارم النظام الأمريكي الديمقراطي ، وكم هو ضعيف “القائد” المتربع على سدة الرئاسة في هذا النظام ، ومدى تكبيله بقيود حريرية وفولاذية ، بحيث لا يستطيع تجاوز القانون والدستور ، والأنظمة الداخلية التي لا يسمح حتى بتعديلها إلا كل مائة عام مرة واحدة . كما اتضح مدى عجز هذا القائد الذي يدير العالم من البيت الأبيض عندما تغريه السلطة والقوة بتجاوز صلاحياته قيد أنملة . هنا يبدو أضعف وأدعى للرثاء والشفقة مقارنة بأي جنرال حاكم في فنزويلا أو شيلي أو موريتانيا أو مصر ، حيث يمكن للحاكم العسكري في أي منها أن يعلن فجأة حالة الطوارىء في البلاد ، ويأمر بنزول الجيش والدبابات الى الشوارع ، وحظر التجول وفرض الرقابة على الصحف ، أو وقفها تماما ، ثم التوجه الى الشعب بخطاب ناري ليبلغ عن اكتشاف (مؤامرة خارجية) تهدد أمن البلاد ومصالحها العليا ، ويعلن تعليق الدستور ، وحل البرلمان وحظر الاحزاب ، وتأجيل الانتخابات الى أجل غير مسمى ، أو إلغاء نتائجها ، والتمديد لنفسه حتى القضاء على المؤامرة الخطيرة ، والوعد بالعودة الى الحياة النيابية والديمقراطية في أقرب الآجال ، والتي قد تكون بعد عقد أو عدة عقود من الأعوام .. إلى آخر السيناريو المعتاد !
للأسف لقد وجد أعداء النموذج الأميركي الديمقراطي الجاهزون دائما لتصيد ما يدعم افتراضاتهم ومقولاتهم الاديولوجية المعلبة في ما حدث فرصة ثمينة لنفث سمومهم ودعايتهم الفجة وثقافتهم الرثة ، ونشر شماتتهم بالأمبراطورية الامبريالية الآيلة للسقوط في المستقبل القريب ، بحسب تقديراتهم الرغبوية ، متجاهلين حقائق ما شهدته العقود الثلاثة الماضية من انهيار مروع للنظام الاشتراكي ، وبالأحرى للنموذج الاشتراكي اللينيني ، لا في الاتحاد السوفياتي وحسب ، وإنما في العالم كله شرقه وغربه ، باستثناء الصين وكوريا وكوبا ، وهي نماذج انتهت صلاحيتها مع انتهاء النموذج الأم في شرق أوروبا ، وتفتقر على أي حال لأي جاذبية عالمية . وهي مستمرة منذ ثلاثة عقود للآن بالقوة الجبرية والقهرية ، لا بالقوة الأدبية والشعبية والالهامية ولا برضى الجماهير .
وبالمقابل يتجاهل أعداء النموذج الأميركي في دعاياتهم الرثة أيضا بؤس واهتراء شعارات الأنظمة المنافسة والمعادية والشامتة ، كالنظام الثيوقراطي الايراني ، أو النظام المغلق في كوبا ، أو فنزويلا ، ناهيكم عن الأنظمة الوراثية الملكية أو ما شابهها أو الأنظمة البونابرتية البوليسية في بلدان الشرق الأوسط .
لا بد من الاعتراف بأن النظام الديمقراطي الغربي المعاصر ما زال حتى الساعة، وسيبقى الى أمد غير محدد النموذج الأكثر تفوقا ، وبفارق عميق على كل الأنظمة المناهضة له ، من اليمين واليسار .
لا نقول ذلك اعتمادا على استنتاجات فرانسيس فوكوياما في ( نهاية التاريخ ) التي توصل اليها متأثرا بمغزى سقوط المعسكر الاشتراكي – السوفياتي بكل العناصر والخصائص التي قام عليها إنموذجه ، الاديولوجية والقيمية ، فضلا عن السياسية والعسكرية والادارية . فنحن لا نذهب الى ما ذهب اليه حين أضفى طابعا طوباويا مجردا بعيدا عن الواقع، وفلسف التفوق الغربي ورفعه الى مستوى من التحليل الاخلاقي ، وقدم المفهوم على الواقع ، وأراد أن يستشهد به على الواقع ، بدل أن يعمد الى الاستشهاد بالواقع على المفهوم ، واضفاء صفة ” الكمال ” والثبات عليه .
ونحن لا نتفق ابدا مع استنتاجات فوكوياما بشأن حركة العالم من التاريخ الى ما بعد التاريخ ، والتبشير بتفوق عرقي وعنصري (للغرب) نتيجة تفوق النموذج الغربي الديمقراطي .
هذه الاستنتاجات مجرد تحليق ذهني غيبي ، منفصل عن حقائق الواقع والتاريخ والعلوم الانسانية ، وتنطوي على ردة رجعية الى عصر تقسيم الكينونة البشرية الى أمم وأجناس متمايزة عرقيا وعنصريا ، وانحياز الى مفاهيم انتولوجية سقطت مع سقوط الفاشية والنازية ونظريات الاصطفاء العرقي .
إن تفوق النموذج الديمقراطي ( الامريكي الغربي – تحديدا لأن كافة النماذج الأخرى تتشبه بالديمقراطية بلا تردد ! ) إنما هو تفوق ملموس وواقعي ، وتفوق لنظام سياسي – فكري شاركت في تحقيقه والوصول اليه كل أمم الأرض من اليونان الى العرب الى الهند .. إلخ ، ولم يكن ولن يكون ابتكارا خاصا بالعرق الأبيض ، لا سيما أن هذا العرق لا يعيش بمعزل عن بقية الأجناس على كوكب الأرض ، ففي أوروبا وأمريكا تمتزج الأعراق والديانات والثقافات والحضارات ، ولا يمكن فصل أحدها أو إحداها عن البقية ، باي حال من الأحوال لا قديما ولا راهنا .
إن تفوق النموذج الأمريكي أو الغربي الديمقراطي الذي نقصده هنا ، تفوق سياسي محدود بحقبة وعصر محددين ، لا بالاطلاق ، ولا يسري على المجتمع الغربي ، ولن يدوم للأبد حتما . لأن التغير والتحول والتنافس على كل المستويات سمات عامة للبشر في حياتهم وفي تطورهم ، عبر التاريخ ، ولا ديمومة للأمبراطوريات ولا للنماذج الحضارية ، ولا نهاية للتاريخ . فكم من حضارات بادت واندثرت ، من بعد أن سادت وازدهرت أزمنة مديدة ، في الشرق والغرب .
المصدر: المدار نت