سجلت منطقة شرق المتوسط في السنوات الأخيرة حالة من انسداد الأفق السياسي، فلا تطورات مهمة في أحداث المنطقة، ولا تبدلات نوعية على صعيد أغلب بلدانها، والأمر في الحالتين لا يعكس عجز كيانات المنطقة وحكوماتها عن الفعل والتغيير فقط، بل إنه يكرس عجز القوى الدولية، ذات التأثير التقليدي في شرق المتوسط، عن الفعل والتغيير في المنطقة وفي بلدانها، سواء كان ذلك بسبب انكفاء تلك القوى نحو سياساتها الداخلية، كما فعلت الولايات المتحدة في سنوات ترمب، وفي عهد سابقه أوباما برفع شعار «أميركا أولاً»، وهو ما فعلته أوروبا من دون أن ترفع الشعار، أو نتيجة عجز عن القيام بما ينبغي، كما حدث لروسيا، التي يعد وجودها في سوريا، وسياساتها في الأخيرة وحولها، مثالاً لفشل الروسي نتيجة عدم تمكنه من فرض رؤيته، أو لعجزه عن تفاعل إيجابي مع أطروحات الأطراف الأخرى.
وبطبيعة الحال، فإن انسداد الأفق السياسي في المنطقة، لم يكن محصلة لمواقف وسياسات الدول فقط، بل كان في أحد جوانبه نتيجة أوضاع عامة سادت في المنطقة؛ أبرزها تداعيات وقوع بلدانها وشعوبها تحت تأثير فيروس كورونا، وفي الأهم مما سبق، تعميم الصراعات خصوصاً الدموية في أغلب بلدان المنطقة، ووصول الصراعات السياسية في بعضها الآخر إلى حدود الانفجار المسلح، كما حال لبنان، مع تنامي الاحتدامات البينية على أكثر من جبهة، وكلها جعلت المنطقة شديدة الهشاشة، أو قريبة من حالة السهل الذي قد تشعله شرارة واحدة.
واستمرار حالة انسداد الأفق السياسي، يفسر أغلب المواقف والسياسات والإجراءات، التي ظهرت هنا أو هناك، لكنها لم تتمكن من إحداث تبدلات في الواقع، فبقيت باعتبارها محاولات ليس إلا، وإلى هذا النسق، تنتمي المساعي العربية في مساعدة العراق للخروج من تحت السيطرة الإيرانية، ومساعي اللبنانيين لإحداث تبدلات في طبيعة النظام القائم ومكانة النخبة السائدة، وجهود نظام الأسد في التمدد الكامل إلى المناطق الخارجة عن سيطرته، ومساعي إسرائيل للضغط العسكري على الوجود الإيراني في سوريا، في إطار مساعيها لدفع إيران للخروج منها.
ولعله لا يحتاج إلى تأكيد، أن إحباط محاولات الخروج من حالة الانسداد في المنطقة وحولها، كان في جزء أساسي منه ناجماً عن الموقف الأميركي، وهو الموقف الذي هزته رياح الانتخابات الرئاسية، وأعطاه فوز جو بايدن بالرئاسة زخماً، يستمد قوته من اختلاف الرئيس الجديد عن سابقه في المزايا والإمكانات والطموحات، ومن اختلاف سياق السياسات، وتحوله من «أميركا أولاً» إلى «عودة أميركا»، التي يفترض أن سياسات بايدن ستتواصل على أساسها، وهو ما أتاح بدايات لدى كثير من دول المنطقة وأخرى مهتمة بالمنطقة لإطلاق مواقف وبدء سياسات سواء بمبادرة منها أو توافقاً مع احتمالات سياسات واشنطن في شرق المتوسط وما حولها، ما يجعلنا اليوم أمام مجموعة من احتمالات تجديد الأوراق في المنطقة وفي بعض دولها، وكلاهما بدا كأنه غير ممكن في المرحلة الماضية.
أول معالم التغيير والتجديد ما تم تحقيقه في القمة الخليجية بالمملكة العربية السعودية، التي كسرت حدة الخلافات بين دول مجلس التعاون الخليجي، ووضعت بلدانه أمام مصالح، تتجاوز زمناً طال من الخلافات، وسيمتد تأثير التحول الإيجابي على علاقات الإقليم الدولية، ومنها علاقاته مع الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، وجميعها تحتاج إلى شركاء مستقرين في المنطقة.
والنقطة الثانية في معالم التغيير والتجديد، تتصل بالقضية السورية. ولئن كانت مؤشرات التغيير الأميركي حولها تزداد، ما يشيع جواً عاماً جديداً حولها، فإنه لا بد من تدقيق في سلوك طرفين أساسيين من أطرافها، وهما نظام الأسد وروسيا، وقد باتا أمام تحدي تجديد سلطة الأسد في انتخابات رئاسية، يفترض إجراؤها بعد أشهر وسط عقدة من عوامل فشل داخلية وخارجية؛ منها أن نظام الأسد غارق في مشاكل انهياره الاقتصادي والمعاشي، التي لن يستطيع جيش النظام ومخابراته التغلب عليها بالقوة، الأمر الذي فرض عليه تحركاً من شقين؛ أولهما تعزيز قدراته الداخلية، التي كان الاستحواذ على أموال وممتلكات رامي مخلوف إحدى خطواتها، والتوجه نحو حلفائه الروس والإيرانيين لطلب دعم مالي واقتصادي، يعطيه فرصة تجاوز مشاكله تلك أقله لما بعد الانتخابات الرئاسية.
لقد تعامل الإيرانيون على طريقتهم بالوقوف بين الموافقة والرفض، بقول نعم في موضوع مساعدة نظام الأسد، بانتظار معاينة الظروف والتدقيق بالتفاصيل لنيل أفضل المكاسب لمساعداتهم، فيما ذهب الروس إلى رفض معلن بالقول علناً، إن النظام ليس لديه ما يجعل الروس يقدمون له قروضاً ومساعدات في وقت يسعون فيه إلى تحصيل ديونهم، التي تراكمت في السنوات الماضية، وعملياً فإن الرد الروسي تعبير عن إحباط من سياسات نظام الأسد، ومن الانسدادات التي تحيط بالملف السوري في المستويين الداخلي والخارجي، التي لا شك أنها ستدفع موسكو إلى تفاعل أفضل مع أي مبادرات أو تطورات جديدة في المنطقة مثل المصالحة الخليجية التي رحبت بها موسكو، ورأت «أن نتائجها سوف تنعكس بشكل إيجابي على مسار تسوية الملفات المعقدة في المنطقة»، ومنها الملف السوري.
ومثلما الحال في معالم التغيير والجديد، التي حملتها قمة المصالحة الخليجية، واحتمال التطورات الجارية في الملف السوري وحوله، فإن ثمة معالم تغيير وتجديد أخرى، منها ما يتصل بالملف الإيراني والملف العراقي ومثله الملف اللبناني، والملف اليمني، وملف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، وفيها جميعاً مبادرات وجهود، تبذلها دول في المنطقة، وقوى دولية حاضرة فيها وأخرى متدخلة في ملفاتها من الولايات المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي سعياً إلى تجديد أوراقها، وتنشيط سياساتها في شرق المتوسط، التي لا شك أن معالجة مشاكلها واحتداماتها، سوف تسهم في فتح آفاق نحو معالجة ملفات واحتدامات مناطق العالم الأخرى.
المصدر: الشرق الأوسط