لن تكون هذه ولادة جديدة للولايات المتحدة الأميركية كما يطيب للبعض التنبؤ به أو يتمناه، ما بعد رئاسة دونالد ترامب، ولن تكون المرحلة سهلة في خضمّ الانتقام المتبادل وسط شعب مُنقسم متطرّف في قناعاته مهما تظاهر العكس. أميركا في مأزقٍ جدّي في العمق، ومصالحها ستكون مهدَّدة إذا ظنّت “كوربوريت أميركا” وشركات “سيليكون فالي” أن لديها صلاحية الحكم بالنيابة أو “الحكومة الخيال” shadow government.
دونالد ترامب يستحق كل ما أتى عليه لأنه حفر قبره بعنجهيّته الفارطة، وفقدانه التوازن، واعتداءاته السافرة على الدستور ومراكز الديموقراطية، وحشده عمداً تطرفّاً خطيراً على المصلحة الأميركية العليا. إنما التعاطي مع ما قام به دونالد ترامب بمعزل عما أراد قوله 70 مليوناً من ناخبيه، أو حتى مجرّد جزء منهم، إنما قد يطيح بفرصة إنقاذ أميركا من احتمال التورّط في شبه حرب أهلية. عزم بعض الديموقراطيين على إلغاء “الترامبية” تماماً من خلال إجراءات التنحية والمساءلة والمحاكمة في مجلس النواب ومجلس الشيوخ يفتقد الحكمة لأنه ينطوي على نزعة الانتقام والإطاحة الكاملة بدلاً من البناء على نسبة كبيرة من خيبة الأمل بدونالد ترامب في صفوف داعميه وعلى رغبة لدى بعض الجمهوريين بالعمل البنّاء لإنقاذ الهوية الأميركية.
انتهت الولايات المتحدة الأميركية بمفهومها وبنظامها السياسي التقليدي حين كان قادة الحزبين الحاكمين يتقوقعون في الغرف المغلقة ويتوصّلون الى الصفقات ويقتسمون الكعكة الأميركية والعالمية بشراكة مع الصناعات الكبرى. و”كوربوريت أميركا” شريك دائم في صنع الحروب العالمية لأنها مفيدة للاقتصاد. هذا ما فعلته “صناعة الأسلحة” military industry complex في الحرب على العراق بقيادة نائب الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش، ديك تشيني، وابنته التي تقود الحملة اليوم ضد دونالد ترامب السناتور ليز تشيني الراغبة بالوصول الى الرئاسة وقيادة الحزب الجمهوري. وهذا ما فعلته قيادات العقول المتمثلة بشركات “غوغل” و”فايسبوك” و”توتير” وغيرها، وكان واضحاً في الدور الرئيسي الذي أدته “غوغل” الى جانب الرئيس الديموقراطي الأسبق باراك أوباما في دعم صعود “الإخوان المسلمين” الى السلطة على متن “الربيع العربي” من تونس الى مصر الى الخراب في ليبيا الى سوريا، حيث تفرّجت إدارة أوباما – بايدن ومعها شركاؤها في هذه الشركات على أحد أكبر وأعنف المجازر في العالم.
لذلك، عندما تقدّم هذه الصناعات والشركات والبنوك والقيادات المالية نفسها الينا بصفتها غاضبة تريد مجرد الإصلاح والتنبّه الى حقوق الإنسان، انها في الواقع تكذب علينا لأن مصالحها واضحة وهي تتدخّل في السياسات الأميركية وتفرض ما تريده عالمياً بواسطة شبكاتها الخطيرة. إذا استمرت في هذا النهج، خطرها سيمتّد الى النظام السياسي العالمي، وليس فقط النظام السياسي الأميركي. المستشارة الألمانية انغيلا ميركل تحدّثت عن الأمر بصورة يجب أن يتوقف عندها أولئك المنبطحون أمام نشوة التخلّص من دونالد ترامب وأولئك الجاهلون لأجندة شركات “سيليكون فالي” والبنوك الأميركية. وأبرزهم ذلك الجيل الجديد الذي يظن نفسه محصَّناً قادراً على المساهمة في إيقاف هذه الشركات عن تحويل أميركا الى مشروعها- وليس مشروع الشعب الأميركي وفقاً للانتخابات ولمعادلة المساءلة والمحاسبة Checks and balances.
الجديد في المشهد الأميركي، على صعيد الحزبين الجمهوري والديموقراطي، هو أن الشارع الأميركي بات جزءاً من رسم مصير الولايات المتحدة وسط انقسامات عميقة تصبّ في خانة الهويّة لأميركا الغد. الجمهوريون يتّهمون الديموقراطيين بأنهم يأخذون أميركا الى اليسار وأنهم استعجلوا الى اختيار جو بايدن مرشحهم للرئاسة بعدما كاد بيرني ساندرز – الواضح في توجّهاته اليساريّة – يحصل على الترشيح الديموقراطي للرئاسة، فارتجفت القيادة الديموقراطية خوفاً وفعلت ما فعلت. الديموقراطيون يتهمون الترامبية – والجمهوريين أيضاً – بأنهم بوضعهم عنوان أميركا العظمى أولاً إنما نصبوا للولايات المتحدة العداء وتوجّهوا بها، يمينيّاً بخطورة بالغة. دخلت الشركات الكبرى على الخط بصورة خاصة بسبب الصين التي ترى معها مصالح ضخمة. بعضها أعجبته فكرة الرأسمالية – الشيوعية التي يتبناها الحزب الشيوعي الحاكم في الصين – فأراد استنباط فكرة مماثلة لا تحمل أبداً كلمة شيوعية أو يساريّة، إنما تقع تحت سيطرة مشابهة. البعض الآخر وجد في اعتباطية وزئبقية وعناد دونالد ترامب مصدر إنهاك لا قدرة لها على تحمّله، فقررت الاستغناء عنه، فساهمت وفعلت. وحسناً فعلت. ولكن.
لكن عزم هذه الشركات على ملء نقاط الضعف في إدارة بايدن يهدّد جدّياً استقلالية الولايات المتحدة ويعرّض مصالحها للخطر. قيادات هذه الشركات ليست مُنتخبة شعبياً. الرئيس المُنتخب جو بايدن ليس معروفاً بأنه شخصية قويّة أو مستقلَّة فكرياً بل إنه معروف بأنه ضعيف الشخصية يتأثّر بسهولة بآراء الآخرين لا يجرؤ على تحدّي ما يسمّى بأقطاب “المؤسسة” establishment. هناك خطر كبير بأن تقوم شركات “السوشيل ميديا” بالذات بالتأثير في بايدن وإدارته لدرجة التحكّم به وبأجندته كما تراها وتتصوّرها وتريد حياكتها. إنها مُسيَّسة بامتياز مهما زعمت غير ذلك. من الصين الى روسيا الى إيران الى تركيا الى المنطقة العربية وأوروبا وآسيا وأفريقيا ومختلف بقع العالم… إن لهذه الشركات أجندة سياسية يجب ألاّ يُسمَح لها بفرضها أميركياً وعالمياً لأنها ليست قيادات مُنتخبة مهما تصوّرت أنها فوق العادة وفوق المحاسبة. هذه قيادات إنما تقوّض أميركا ومفهومها وهويتها ومصالحها إذا لم تستدرك وتتكيّف. ذلك أن انتهاكاتها لا تقلّ خطراً عن انتهاكات دونالد ترامب والترامبية، إذا استمرت في تغذية الانتقام، وفي عزل مَن لا يوافق مع آرائها، وفي حملتها الضارية ضد جزء من الشعب الأميركي الذي مارس حقوقه الانتخابية.
روسيا بدأت تتصرّف على أساس مفهومها لأميركا الجديدة الضائعة أينما كان، المنقسمة على نفسها، الضعيفة داخلياً وعالمياً، وهي بدأت بأخذ زمام الأمور صيانةً لمصالحها بما فيها في منطقة الشرق الأوسط. لذلك نرى مؤشرات لافتة الى التفكير الروسي نحو إسرائيل وإيران والسعودية، من سوريا الى اليمن الى لبنان. فالمؤسسة الروسية السياسيّة لا تثق بما فعلته إدارة أوباما – بايدن عندما دعمت “الإخوان المسلمين” وصعودهم الى السلطة، وهي لن تنبطح هذه المرّة لتكرار الشراكة بين إدارة بايدن المفعمة بالأوبامية وبين شركات “السوشيل ميديا” ذاتها بل الموسَّعة والمتأهّبة لملء مواقع ضعف إدارة بايدن.
ما يزعمه بعض هذه الشركات من اهتمام بحقوق الإنسان كأولوية يسقط فوراً على علاقاتها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية واندفاعها الأعمى الى العودة التلقائية الى الاتفاق النووي JCPOA بغضّ النظر عن تقارير انتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان داخل إيران حتى بموجب تقارير منظمة “هيومن رايتس واتش” التي اتهمت آية الله علي خامنئي بإعطاء الضوء الأخضر لقمع الإيرانيين. إنها تتظاهر باحترام سيادة الدول فيما تهرول الى مباركة وقطع أوصال السيادة في لبنان والعراق واليمن وسوريا على أيادي “الحرس الثوري” الإيراني.
كل هذا سيتسبّب بمشاكل خطيرة مستقبلاً على السياسات الأميركية العالمية وعلى المصلحة القومية الأميركية. فأميركا في مرحلة انتقالية فائقة الخطورة على نفسها وعلى العالم. إدارة بايدن ستضّطر للتركيز على المسائل الداخلية لأسباب عدة من ضمنها وباء كوفيد-19 ومن بينها أخطاء يبدو أنها تُرتَكب، ونتائجها لن تنسحب فقط على “الترامبية” وعلى العلاقة بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي. انها مسألة مصيريّة.
الدول الخليجية العربية تبدو واعية للتحدّيات والمطبّات وهي تدرس الخيارات وتأخذ الاستعدادات لا سيّما لجهة تداعيات العلاقات بين إدارة بايدن والجمهورية الإسلامية الإيرانية التي بدورها آخذة الى الاستفزاز والابتزاز ظنّاً منها أن هذه هي فرصتها المواتية، وأن التهديد بتهوّرها سيأتي عليها برفع العقوبات وبمباركة أجندتها الإقليمية والصاروخية والداخلية.
أميركا لن تكون بخير قريباً. التخلّص من دونالد ترامب يلقى الاحتفاء والترحيب، ولهذا مبرّراته الواقعية والعمليّة. إنما هوية الولايات المتحدة الأميركية على المحكّ ومن الضروري العودة الجدّية الى النسيج الذي صُنِعت منه هذه الدولة العريقة والقائدة عالمياً.
المصدر: النهار العربي