مرّت منذ أيام الذكرى السنوية السادسة عشرة ” للانتفاضة الكردية” التي حدثت في مدينة القامشلي يوم الثاني عشر من آذار/مارس 2004. وقد جاءت هذه الذكرى في وقت تعيش فيه المسألة “الكردية” في سورية تعقيدات بالغة الخطورة، إذ تسيطر تركيا وفصائل سورية تابعة لها على جزء من الشمال السوري الذي كان لفترة أحد الركائز لما سمي ” كردستان الغربية/ روجافا”، وتتفاعل التعقيدات التي خلفتها سيطرة قوات (PYD) على مناطق واسعة في محافظتي دير الزور والرقة، فيما يستمرّ تجميد العملية السياسية في سوريا، وذلك في أجواء شديدة الاحتقان.
خلال الشهر الماضي، أعلن المجلس الوطني الكردي السوري عن افتتاح مكاتب رسمية له في مناطق سيطرة قسد. هذا المجلس، الذي تأسس عام 2011 برعاية رئيس إقليم كردستان العراق السابق مسعود بارزاني، ويضم عدداً من الأحزاب والمنظمات التي تميل في معظمها إلى تأييد التيار الذي يقوده بارزاني ضمن الحركة الكردية في سوريا، وهو ما وضعها في تنافس سياسي مع تيار حزب العمال الكردستاني، الذي أسسه عبد اللـه أوجلان في تركيا. وعلى الرغم من تشكيل مجلس سوريا الديمقراطي ليكون ممثلاً سياسياً عن تلك المناطق، إلا أن هيمنة حزب الاتحاد الديمقراطي، ومن خلفه حزب العمال الكردستاني، على الفضاء العام في مناطق قسد بشكل شبه تام تبدو أوضح من أن تخطئها عين، وهو ما منع حتى الأحزاب الكردية الأخرى، التي يتمثّل عدد من أهمها في المجلس الوطني الكردي، من العمل في مناطق الجزيرة، وفي منطقة عفرين قبل السيطرة التركية عليها عام 2018.
وإن كانت الرغبة الأميركية في إنجاز هذا التقارب بالغة الوضوح، ولكن لا يبدو حتى اللحظة أنّ هذه الخطوة بدايةٌ فعليةٌ لتحركات أوسع، إذ أن المؤشرات لا تعطي أي تفاؤل حول نية قسد تقاسم السلطة في مناطق سيطرتها مع أي قوى أخرى، سواء كانت قوى كردية أو غيرها، وهو ما يعني عملياً احتفاظ قسد بنفوذها وسلطتها المطلقة.
وتواصل “الإدارة الذاتية” التابعة لـــــ(PYD)، الإمساك بمفاصل الحياة في المنطقة ومن ضمنها العملية التعليمية، بما فيها إغلاق بعض المدارس، وتغيير المناهج التعليمية بما يتناسب مع الإديولوجيا التي تتبناها. علماً بأن نتائج استطلاع عن الواقع التعليمي في تلك المناطق أظهرت أن أكثر من نصف الأهالي غير راضين عن مستوى التعليم.
ﻓﻲ المقابل يتجاهل الجميع أنه في 13/9/2014 مثلاً، فقدت محافظة الحسكة أكثر من 35 مدنياً بالإضافة لتجريف ثلاثة قرى كاملة (الحميدية، تل خليل، خربة السد) بأيدي PYD جلهم من الأطفال والنساء. كما تغاضى الكثيرون على الحصار الطويل والمؤلم لأكثر من 70 ألف مدني في حي غويران في مدينة الحسكة والذي امتد لشهور طويلة تتجاوز العام، والأهم والمؤلم أيضاً هو الخذلان الذي تعرّض له الحي من قبل الأحياء الأخرى والناشطون الكرد والسريان، إذ توجد عشرات المؤسسات الإعلامية والحقوقية ذات الطابع العرقي الكردي والسرياني والتي لا تترك حتى مقتل عنزة في إحدى مناطقهم إلا وتشير إليها.
إن الخوض فيما سمي ” إنتفاضة كردية ” يستوجب العودة إلى الظرف التاريخي الذي أحاط بالمنطقة بعد الغزو الأمريكي للعراق، وتشكيل إقليم كردستان العراق، والأحلام الإنفصالية للعديد من التشكيلات الحزبية الكردية التي غزت منطقة الجزيرة السورية. وجميع ذلك إنعكس بشكل سريع فيما بعد الثورة السورية وبأداء هذه التشكيلات الحزبية في مطالبها بعد تراخي السلطة المركزية، وتلاقي المصالح الدولية مع بعض أطرافها.
كانت مطالب الكرد -قبل الثورة- تقتصر على رفع التمييز والتمتع بالحقوق الثقافية والسياسية، وبحقوق المواطنة، أسوة بباقي السوريين، وكانت جميع القوى والنخب والشخصيات الوطنية والديمقراطية السورية تقف إلى جانبهم، لكنْ بُعيد انطلاق الثورة، بدأ الأكراد بالتمايز عبر التركيز على مسألتهم، وإعلاء شأنها، بوصفها القضية المركزية، ووصلت مطالبهم، إلى الإقرار، دستوريّاً، بحقوقهم القومية، بما فيها حقهم في تقرير المصير، الذي يعني عملياً الحق في الانفصال، والاعتراف بالقومية الكردية كقومية أصيلة، وعدّ اللغة الكردية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية، على أن تكون اللغة الرسمية الأولى في المناطق ذات “الأغلبية الكردية”، والإقرار بأن النظام الفيدرالي هو النظام الأنسب لسورية، وأن الأكراد يقيمون في المناطق الكردية على أرضهم التاريخية التي تُعرف بكردستان الغربية، وأن يُشكّل هذا الاعتراف أساساً، يتم الانطلاق منه لمناقشة “القضية الكردية”.
وإن كنا نقر بأن أخوتنا الأكراد في سورية هم سوريون بالمواطنه وليس بالضرورة بالاصالة، وبالتالي لا يحق لهم المطالبة بأي شبر من الاراضي السورية أو الانفصال، إلا أن القوى السياسية المحركة لهم ترى أن ثمة فرصة تاريخية متاحة أمامهم الآن للتقدم في مشروعهم الكردي المستقل. وهذا ما عبرت عنه الخرائط التي نشرت لما تعتبره تلك القوى أرض كردستان التاريخية والتي ستكون أرض الدولة الكردية المنشودة. فرصة خلقتها أحوال وتداعيات الحرب في سورية، وهي لن تتكرر بهذه الشروط، والمؤلم في الموضوع أن كل ذلك عبثي ومجاني ومؤذٍ للجميع، فليس ثمة مستفيد، فالكل خاسر، والأكراد على رأس الخاسرين. ولا يتطلب اكتشاف ذلك كثيراً من العناء، وسيفهم أخوتنا الأكراد عاجلاً أم آجلاً أنهم لم يحسبوا خطواتهم، فمصالح الدولة التركية مقدَّمة على مصالحهم لدى كل أصحاب القرار في العالم، وخلافات تركيا مع الغرب وروسيا إن هي إلا سحابة صيف، وسرعان ما ستعود الأمور إلى مجاريها، وقد بدأت فعلاً.
وللخروج من عنق الزجاجة، ومحاولة تجاوز الشروخ قبل إتساعها، يتوجب فتح حوار وطني لتوحيد الجهود المخلصة في مواجهة أس الصراع وهو إزالة الإستبداد والانتقال إلى تأسيس نظام الحكم الوطني الديمقراطي، وإقامة المؤسسات الوطنية المنتخبة. عندها فقط تُطرح جميع القضايا الوطنية، وتأخذ طريقها السليم في المعالجة، وتأتي الحلول بسلاسة، مهما كان شأنها، دون أحقاد وصراعات وغَلَبة وقهر. فالأخير وصفة لعدم استقرار ولحروب طويلة ومناخ للرضوخ للداعمين والوقوع في حالة تبعية دائمة لهم.