مشهديتان احتلتا الواجهة وسيطرتا على اهتمام طهران والمحور الذي تقوده في المنطقة، وهما على تماس مباشر مع مستقبل النظام في إيران وما تفرضانه من تحديات ذات أبعاد مصيرية تحدد طبيعة النظام وما ستكون عليه الأمور في المرحلة المقبلة، إن كان على صعيد معركة التنافس السياسي الداخلي حول رئاسة الجمهورية والانتخابات المرتقبة في 18 يونيو (حزيران) 2021 وما سيسفر عنها، أو على صعيد ما يدور في الكواليس حول الشخصية التي ستتولّى موقع المرشد ومنصب ولي الفقيه على رأس النظام بعد رحيل المرشد الحالي آية الله علي خامنئي.
المشهدية الأولى
الاستفزاز الذي أصيبت به مؤسسة النظام الإيراني بعد تصاعد الحديث عن إمكانية دخول حفيد مؤسس النظام وزعيم الثورة حسن أحمد الخميني، سباق الانتخابات الرئاسية وما قد يمثّله من إعادة إحياء حقيقية للتيار الإصلاحي وإعادة وضع خاتمي على خريطة القرار السياسي ويخرجه من العزلة المفروضة عليه، بحيث يكون قادراً مع الخميني الحفيد على استقطاب الشارع الإيراني مجدداً بما يعيد كل الخطط والجهود التي بذلت على مدى 30 سنة إلى دائرة الصفر وتضيع هباءً منثوراً.
وعلى الرغم من تأكيد عدد كبير ممن هم في دائرة الخميني الحفيد عدم وجود نيّة لديه للدخول إلى السباق الرئاسي، إلا أن منظومة التيار المحافظ، لم تقتنع بكل المسوغات التي قدّمت في هذا الإطار، وتوقفت عند الإشارة التي صدرت عن الخميني في خطابه بمناسبة الذكرى السنوية الرابعة على وفاة الرئيس الأسبق الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني، إذ اعتبر أن تخلّي أي شخص عن تحمل المسؤولية عندما تكون البلاد بحاجة إليه، بمثابة خيانة.
ورأت في ذلك مؤشراً إلى نيته الدخول كمرشح إجماع للقوى الإصلاحية، وأنه قادر على تحريك الشارع ورفع حجم المشاركة الشعبية، وما يعنيه ذلك من خلط أوراق التيار المحافظ الذي يراهن على تكرار تجربة الانتخابات البرلمانية للسيطرة على السلطة التنفيذية بأقل عدد من المقترعين.
ولم تتردد صحيفة “كيهان” الناطقة باسم النظام، في الهجوم على الخميني، مستعيدةً تجربة انتخابات مجلس خبراء القيادة قبل نحو 4 سنوات عندما رفض مجلس صيانة الدستور أهليّته باعتباره لا يتمتع بمرتبة الاجتهاد الفقهي، ورأت الصحيفة أن عزوفه عن المشاركة في الامتحان الفقهي دليل على عدم أهليته العلمية، بما يوحي بأنه تهرّب من الامتحان حتى لا يفتضح عملياً.
لم يقف الهجوم على الخميني عند هذا التذكير والاستدعاء، بل ذهب إلى اتهامه بأنه يفتقر إلى القدرة على الإدارة وتحمّل المسؤولية، بخاصة أنه لم يسبق له أن تولّى أياً من المناصب الرسمية والإدارية، والعودة إلى التذكير بالوصية التي تركها جده في ما يخص العائلة والمتعلقة بعدم قبوله تولّي أي من أفرادها موقعاً في الدولة والإدارة.
وفي وقت تغافلت هذه القوى عن وصية أخرى للخميني المؤسس، أكد فيها رفضه تدخل المؤسسة العسكرية (الحرس والجيش) في الشؤون والمسائل السياسية، في ظل تعدد الشخصيات العسكرية الطامحة لتولّي منصب رئاسة الجمهورية وأعلنت نيتها الترشح للانتخابات المقبلة.
المشهدية الثانية
انتشرت في الأيام الأخيرة صور في شارع الثورة “انقلاب” في وسط العاصمة طهران لمرشد النظام آية الله علي خامنئي ونجله الثاني مجتبى، مذيّلة بشعار يقول “لبيك يا مجتبى… نحن من أتباع بيت الإمام الخامنئي”.
سارعت الجهات الأمنية في طهران إلى اعتبار الأمر، خطوة من عمل جهات تريد استثارة الشارع ضد النظام، وأعلنت أنها رصدت المسار الذي عمل على تعليق هذه الصور في شارع “انقلاب” واكتشفت أن شخصاً ما زال مجهولاً قاد هذه العملية عن بعد، بدءًا من المطبعة وصولاً إلى تكليف الأشخاص الذين علّقوا هذه الصورة مقابل أجر مالي.
دخل النظام وأجهزته في حالة استنفار جراء انتشار هذه الصور، لأنها تكشف عن تزايد الحديث وجدّيته حول مسألة خلافة المرشد، وما يعنيه ذلك من أن وضعه الصحي ليس على ما يرام، وما يفرضه ذلك من الانتقال إلى بحث موضوع الخلافة ومن ستولّى موقع المرشد الأعلى في المرحلة المقبلة في حال حصول أي طارئ.
من ناحية أخرى، إن استنفار هذه الأجهزة والتعامل السريع مع قضية الصور وانتشارها، قد يعود إلى ما تشكّله هذه الخطوة من دوافع لتخريب الجهود التي بذلت – في حال وجدت- لترتيب انتقال سلس لموقع القيادة من المرشد إلى نجله الثاني مجتبى، وأن الدوائر التي تعمل على تمرير عملية الانتقال هذه باتت محرجة.
وأصبحت أمام واحد من خيارين، إما أن تنفي بشكل قاطع وجود مثل هذه الجهود وبذلك تكون قد أطلقت رصاصة الرحمة على مشروعها الانتقالي، وإما أن تصمت، ما يعني بالتالي وجود نوايا جدّية للقيام بذلك وما حصل شكّل انتكاسة لهذه الجهود.
وكلا الخيارين يعنيان أن معركة مفتوحة قد تندلع بين مؤسسة المرشد وولي الفقيه الدستورية والمؤسسة الدينية الممثلة بالحوزة الدينية، بخاصة أن هذا الموقع وعلى الرغم من التساهل الذي حصل بعد رحيل المؤسس في تفسير شرط المرجعية في اختيار من يتولاها، والذهاب إلى تفسير الأعلمية بقدرة المرشح أو المتولي على التعامل مع الأمور والأهلية للقيادة والتعامل مع المسائل السياسية والاستراتيجية، إلا أن وجود مرجعيات دينية معترف لها بموقعها العلمي والفقهي، سيضيف تعقيداً كبيراً على المشهد، لأنها لن تسمح بتجاوزها والقفز فوق كل المعايير التي تشترط في التصدي للشأن المرجعي، خصوصاً أن لموقع المرشد بعداً فقهياً ودينياً لا يمكن تجاوزه أو العبور عنه لصالح البعد السياسي.
كما أن اختيار “النجل” ليكون خليفة لوالده، يعتبر سابقة في السياقات الفقهية والحوزوية والدينية، لأن العامل المحدد لأهلية أي فرد في التصدي لهذا الموقع الديني هو الأعلمية والأفقهية والمعرفة بمسائل العصر، وإلا فإن إسقاط هذه الشروط والمحددات تُدخل موقع ولي الفقيه “المطلق” الدستوري في فخ “التوريث” ويخرجه من طابعه الديني الذي يعطيه صفة “ولي أمر المسلمين” ولا ينسجم مع تاريخ المؤسسة الدينية الشيعية التي حصرت التوريث في الأئمة الاثني عشر من علي بن أبي طالب إلى ولديه الحسن والحسين وأولاد الحسين التسعة من بعده.
وإلى جانب الأزمة مع المؤسسة الدينية، فإن أزمة أخرى ذات بعد سياسي وشعبي، قد تتفجر بوجه أي تيار أو مسار يسعى إلى تكريس هذا الانتقال، إذ ستفتح الباب أمام حركات اعتراضية مختلفة عن تلك التي سبقت في الأعوام والعقود الماضية، وستعيد طرح شرعية النظام “الجمهوري” ورفض تحويله إلى نظام توريثي سبق أن ثار الإيرانيون للتخلص منه عام 1979.
وقد يؤدي ذلك إلى حصول انقسام حاد بين مؤيدين ورافضين، ما يعني إمكانية اندلاع صراعات، قد تهدد استقرار النظام ووحدته وتدخله في نفق مجهول.
المصدر: اندبندنت عربية