أسفر إعلان تثبيت (جو بايدن) رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، يوم 6_ كانون ثاني/ يناير الجاري، لولاية قادمة مدتها أربع سنوات، بعد تصويت الكونغرس الأميركي بمجلسيه، النواب والشيوخ، عن احتجاجات شعبية غير مسبوقة، وصلت حد اقتحام مجلس الشيوخ من قبل المحتجين، وعمليات تكسير في واجهات المؤسسة التشريعية الأولى، وإطلاق الرصاص الحي واستخدام الغازات المسيلة للدموع قبل إخراج المحتجين بالقوة، واعتقال العشرات منهم، ووقوع عدة قتلى وإصابات بين العديد من رجال الشرطة والأمن، حدث ذلك بعد انتخابات شهدت جدلاً كبيراً واعتراضات عديدة، نظرت بها المحاكم الأميركية والمؤسسات القضائية الأخرى ذات الاختصاص والمسؤولية (بلغت 61 دعوى طعن).
بعيداً عن حجم الاحتجاجات وامتداداتها (التي شملت عدا عن واشنطن/ العاصمة 6 ولايات أخرى) وعدد المحتجين، وردود الأفعال المستهجنة لهذا السلوك، من أتباع الرئيس ترامب الرافضين لنتائج الانتخابات، فان الأمر يكشف عن مخاطر كبيرة تهدد المجتمع الأميركي، وتكشف عن نقاط ضعف في الإمبراطورية الأميركية، التي لم يشهد التاريخ مثيلاً لها في القوة والنفوذ، تهددها من داخلها بالضعف والتراجع وحتى التفكك.
عقب تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الشيوعي برمته، قبل ثلاثة عقود من الآن، طرح كثير من الباحثين، الجادين والمرموقين سؤالاً بدا في حينه غريبًا، وهي في لحظة الزهو بانتصارها وانتصار نموذجها، متى ستنهار الامبراطورية الأميركية إذا كانت الامبراطورية السوفيتية قد انهارت؟ عدا عن مسلمة وقانون الأمم في النهوض والتراجع (النظرية الخلدونية) بناء على عوامل الضعف والقوة الذاتية التي تحملها كل تجارب الأمم والشعوب، فان التجربة الأميركية لها خصوصياتها العديدة التي تتعلق بظروف نشأتها وتشكلها، مرورًا بالحرب الأهلية بين شمالها وجنوبها، ومن ثم ظروفها التي هيأتها لقيادة العالم الغربي الرأسمالي والذي مكنها في النتيجة لموقع الريادة في قيادة العالم لمرحلة العولمة وما بعدها، وتسيدها، وما حملته من أزمات وفوارق اقتصادية واجتماعية، باتت مخاطرها بادية في مركزها، وعقر دارها.
المجتمع الأميركي لم يتخلص تمامًا، حتى الآن، من التمييز بين مكوناته التاريخية، وسط تقديرات ومؤشرات عن احتمالية “استقلال” بعض الولايات الكبرى في مدى زمني غير بعيد، يعبر عنها بعض الأصوات المطالبة بذلك، كما أن قوة أميركا الاقتصادية، التي تعتبر الأولى في العالم، لم تقض على ظواهر الفقر والحاجة، وما زال التعليم، وخصوصًا العالي، غير متاح للجميع، والأمر ذاته ينسحب على الصحة، وكافة فرص الحياة الأخرى، التي تشكل بحد ذاتها عوامل انفجار كامنة في بنية المجتمع الأميركي، هذا عدا عن “الانقسام” المذهبي المسكوت عنه بين البروتستانت والكاثوليك والأرثوذوكس في دولة عَلمانية بالمطلق، ورمزها العالمي تمثال الحرية.!
صحيح أن الرئيس ترامب، الذي انتهت ولايته تقريبًا، قال عقب الأحداث التي شهدها يوم 6/ 1 الجاري أن عملية انتقال السلطة يوم 20 كانون ثاني/ يناير الحالي ستتم بشكل (منظم و سلس)، وسط مطالبات بعزله، وأن الأحداث تم تطويقها، إلا أن ذلك كله سيضع النخبة الأميركية وعلى رأسهما الحزبين الكبيرين، الجمهوري والديمقراطي، اللذان يتداولان ويقتسمان سلطة التشريع والسكنى في البيت الأبيض، أمام تحديات جمة تحفظ هيبة الامبراطورية، وتماسكها، ومستقبلها، وتفوقها العالمي، فساعات الأحداث التي نقلتها شاشات التلفزة العالمية أظهرت أميركا كأنها دولة من العالم الثالث، تتنازع على الشرعية، وفاشلة في حماية مؤسساتها الدستورية، وتحصينها بالمواطنة والمساواة بين مكوناتها.
(جو بايدن) الديمقراطي، والرئيس السادس والأربعين في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية اعتبر ما حصل (تمردًا) وآخرون من أعضاء الكونغرس اعتبروه (انقلابًا) وهي مفردات لا يتم تداولها في دولة ديمقراطية راسخة ومحكومة بمؤسسات وأنظمة وقوانين لا تسمح بالخروج عنها وتعريض أمن الدولة وهيبتها لأي اهتزاز أو تلاعب.
هذه الأحداث والظواهر تعكس حالة سريرية تظهر أن نموذج الدولة الأميركية يواجه تحديات صعبة، متراكمة، عززتها مرحلة (الشعبوية) التي جسدها الرئيس ترامب خلال السنوات الأربعة الماضية، وهو هنا ليس إلا تجسيد حقيقي لشخصية (الكابوي) الأميركي.
ما شاهدناه يوم الأربعاء 6_ 01 ليس حدثًا عابرًا ولا يتعلق بعواطف جياشه ناتجة عن تأييد هذا المرشح أو ذاك، إنها أعمق من ذلك في دلالاتها وأبعد مدى من الحدث نفسه، وهذا ما ستكشفه الشهور والسنوات القادمة، ورأينا هذا غير مبني على خلفية أيديولوجية تنظر للعالم وترسمه وفق مخيلتها، بقدر ما هو مبني على قراءة واستنتاجات هادئة للأحداث ووقائعها. والأكيد أن أميركا بعد الساعات العصيبة التي مرت بها يوم السادس من كانون ثاني/يناير ليست كما كانت قبلها.
المصدر: إشراق