كثيرًا ما يُغفل أثناء الحديث عن الهوية قاسم مشترك يثوي في جذر كل هوية، أيًا كان جوهرها -إذا صح التعبير_.
هذا القاسم المشترك لا يمكن للهوية أن تأخذ صيغتها المتبلورة من دونه، ولا تستقيم على ساقها إذا فقدته.
إنه الحب، وهو عنصر أساسي في أي هوية ينفحها بنفحة وجدانية، ويجعلها قادرة على تشكيل صاحبها، وتصبح الهوية من دونها مفارقة، متعالية، عاجزة عن النزول من عالم المثل.
ولا يفارق هذا الحب إنسانًا طبيعيًا، فقد خالط حبّ مكة شغاف قلب نبي الإسلام، وكان جزءًا أساسيًا من مفهوم الهوية الوطنية، وإن لم ينحت له هذا الاصطلاح.
فقد جاء في الخبر أنه وقف دامع العينين على أبوابها عندما هاجر إلى المدينة، وهو يخاطبها قائلًا:
والله إنك لأحب بلاد إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت.
ولم تكن مكة بالنسبة إليه أحجارًا، ولا طرقات، ولا دورًا، وإنما ذكريات تغلغلت في الروح والعقل، وأصبح حبها مكونًا من مكونات هوية نبي الإسلام، ودليلًا قاطعًا على أن حب الوطن ركن من أركان الهوية الوطنية مهما حاول المؤدلجون القفز فوقه، وجعله بلا معنى.
وقد تجذر حبه هو في قلوب أصحابه، وأصبح جزءًا من هويتهم الدينية التي لم تكن لتكون بتلك المتانة والقدرة على دفع أصحابها لاقتحام المنايا لو اقتصرت على مفاهيم مجردة.
وهو الأمر نفسه الذي يشرط عقيدة التوحيد التي تستحيل إلى أدلة صورية ما لم تتكامل مع حب لموضوع التوحيد، ويصيبها الوهن إذا لم تتغلغل في ثناياها علاقة عمودية بين الموحد والواحد.
وإذا انتقلنا إلى الحب الذي يظن الكثيرون أنه علاقة ذكر بأنثى لا صلة لها بهوية العاشقين، نجد بالحفر في طبقاته الغائرة -الذي لفت نظرنا إليه أبو حامد الغزالي في كتابه: ” الحب والشوق”- أنه في جذره حب للذات؛ بمعنى أن حب المعشوق يجد أسبابه في البحث عن تلبية حاجات للعاشق، أو سد ثغرات في شخصيته تقضّ مضجعه، فيعثر عليها في معشوقه.
ولأجل هذا، فإن تأصيل عشق الآخر في عشق الذات صريح الدلالة على ارتباط الحب بين عاشقين بهوية الفرد عاشقًا ومعشوقًا.
وقد يبلغ حب الذات المؤصّل لعشق الآخر مبلغًا يوهم بتفنيد هذه النظرية، بينما هو يؤكدها، فعندما عادت الفتاة إلى منزلها في إحدى مدن المنطقة الشرقية في سبعينيات القرن الماضي، وشاهدت جمعًا على باب المنزل أثار فضولها، ثم علمت أن حبيبها قد لقي حتفه، وهو يحاول إصلاح عطل كهربائي، لزمت الصمت المطبق، وحثّت خطاها باتجاه نهر الفرات الذي كان آنذاك نهرًا عظيمًا متدفقًا، وظلت تمخر عبابه بثيابها، إلى أن غابت فيه.
نقول: إن هذا العشق الذي يدفع إلى الانتحار ليس منفصلًا عن هوية فقدها صاحبها بفقد عاشقه الذي لا يمثل جسدًا وروحًا فحسب، وإنما علاقة مجدولة مع المكان الذي استحال برحيله مكانًا قفرًا، وليس مفصولًا عن حب للذات التي لم تعد تجد في أي رافد من روافد الحياة ما يحققها، فاختارت العدم؛ وهو اختيار فرضه أيضًا حب الذات لذاتها، وبحث بالغ أقصى مداه عن نقلها إلى عالم يسكّن قلقها، ويطمئن روحها.
حب الله، وحب الوطن، وحب الرمز، وحب المحبوب، جذر كامن في كل هوية، ومكابرة هذا إنتاج للكراهية، ومناحرة للواقع تفرز أخطر النتائج.
المصدر: صفحة مناف الحمد