تضررت إيران بشدة من تفشي الفيروس التاجي COVID-19 حيث بلغ عدد الحالات المؤكدة أكثر من 3513 حالة. وفي حين تسعى إيران لاحتواء الفيروس، يصبح نظامها للرعاية الصحية منكوبًا ولا يسهم مسؤولو الصحة العامة كثيرًا في التهدئة من روع الناس. وبينما يزداد وباء الفيروس التاجي سوءًا، ستكون المجتمعات الهشة في المناطق الفقيرة أكثر عرضة للإصابة به، لا سيما في أوساط الأطفال العاملين في إقليم الأحواز.
تضم منطقة الأحواز الواقعة في ما يُعرف حاليًا بجنوب وجنوب غرب إيران الملايين من الأحوازيين. وتتعرض أقلية الأحوازيين إلى تمييز ممنهج فتعيش دون خط الفقر ولا تحصل على الخدمات الصحية الكافية أو المياه النظيفة. وتعرض شعب الأحوازي في أواخر الثمانينات إلى نزوح جماعي نتيجة الحرب بين إيران والعراق وانحصروا في هذه الأحياء المتهدمة على هامش المجتمع الإيراني.
وعلى الرغم من أن منطقة الأحواز تنتج ما تبلغ نسبته 70 في المئة من النفط الخام الإيراني وتضم معظم حقول النفط الإيرانية التي تشكل أغلبية العائدات الإيرانية، لا تزال المنطقة تعاني انتشار البطالة. ويؤدي هذا التهميش الممنهج الذي تمارسه طهران بالإضافة إلى معدلات البطالة المرتفعة إلى تعزيز هذه الحلقة المفرغة من الفقر. وتؤدي هذه الحلقة المشؤومة بدورها في الغالب إلى نتيجة مؤسفة إنما متوقعة وهي عمالة الأطفال. فيصبح من الشائع أن يتخلى الأطفال عن تعليمهم ليبحثوا عن فرص عمل مدفوعة الأجر لإعالة عائلاتهم، أو في حالات كثيرة، لإيجاد سبل لتأمين ملبسهم ومأكلهم.
ويستحيل على معظم أطفال الأحواز الذين يعيشون في هذه المناطق المحرومة الحصول على ظروف عيش شبه طبيعية على الأقل. يجد أطفال الأحواز أنفسهم مجبرين على التوقف عن الدراسة والتفرغ لها، وذلك قبل بلوغ مرحلة التعليم الثانوي بالنسبة إلى معظمهم، وغالبًا قبل أن يتعلموا القراءة أو الكتابة. يولد ذلك شعورًا بالعجز المكتسب و”نبوءة تحقق ذاتها”، بحيث يخشى الأطفال من مواجهة السلطات.
إن بعض أطفال الأحواز مجبرون على البحث في النفايات الصناعية عن مواد بلاستيكية وزجاجية لبيعها لمصانع إعادة التدوير. ويقوم أطفال آخرون ببيع المياه بنقلها على مسافات طويلة بحثًا عن مشترين. وحتى إن بعض الأطفال يصحبون باعة متجولين يبيعون الأزهار بجوار إشارات السير المزدحمة في أغلب الأحيان أو في المقابر المحلية، أو يعرضون غسل زجاج السيارة الأمامي. يصعب تحديد عدد الأطفال المجبرين على العمل، بما أن السلطات أو الجمعيات الخيرية الحكومية لا تنشر نتائج الإحصاءات، وهذه الجمعيات لا ترصد سوى الأطفال المسجلين لديها. وتقدم جمعيات مثل ” طلوع مهر أفرينان”، حوالى ثمانية دولارات فقط بالشهر بالإضافة إلى عدد محدود من الخدمات التعليمية، ما لا يكفي لتخفيف معاناة هؤلاء الأطفال ولا عائلاتهم.
واجتمع كتاب هذا المقال مؤخرًا بناشطين في مجال حقوق الإنسان من الأحواز متخصصين بالمسائل المتعلقة بعمل الأطفال. اختار الناشطان منادتهما بالاسمين المستعارين “أحمد” و”عادل” لتوثيق لقاءاتهما مع العاملين من الأطفال في الأشهر القليلة الفائتة. لا يجدر الإفصاح عن أسماء الناشطين بما أن جماعات الحقوق المدنية في الأحواز محظورة والأشخاص الذين يعبرون عن معارضتهم على سوء المعاملة الشنيعة تجاه هذه المجموعة الأقلية الأحوازية مستهدفون من قبل السلطات. ومن المهم التفكير في مقابلة الكتاب مع أحمد وعادل، إذ ترسم صورة مفجعة عما يتعرض له الأطفال من سوء معاملة ومعاناة إنسانية. تشكل قصص هؤلاء الأطفال التسعة المفصلة أدناه جزء صغير ليس إلا من مئات الأطفال العاملين في الأحواز.
أجرى أحمد مقابلات مع الأطفال العاملين في أحد الأحياء الأكثر فقرًا واكتظاظًا بالسكان في ضواحي الأحواز العاصمة. وروى أحمد خلال زيارته قصص أربعة أطفال من الأحواز وهم: ليلى ومريم وموسى وسامر، ولا يتجاوزون جميعهم الثالثة عشر من العمر، ويعملون طوال النهار في ظروف خطيرة للمساعدة في إعالة عائلاتهم. ولا يمكن وصف ما رآه سوى بأنها “أجيال يائسة تعيش في فقر مدقع”. وبذلك، يعمل الأطفال بدوامات كاملة بدلًا من الذهاب إلى المدرسة والاستمتاع بطفولتهم. ويشدد على أن رؤية الأطفال في هذه الظروف يصبح شيئًا فشيئًا أمرًا طبيعيًا ومشهدًا لا يكترث به معظم سكان الأحواز.
وخلال زيارة قام بها أحمد إلى مقبرة بهشت آباد الواقعة على أطراف مدينة الأحواز ويزورها مئات المشيعين في أيام الخميس، التقى بمريم وليلى، وهما فتاتان توأمان في الحادي عشر من العمر. رآهما أحمد تعرضان تنظيف القبور مقابل ألف ريال فقط (سنت أمريكي واحد). اقتربتا سريعًا من أحمد لاعتقادهما بأنه أحد المشيعين، بيدين قذرتين ومجروحتين من تنظيف القبور طوال اليوم. أخبرتاه بأنهما تنظفان حوالي 12 قبرًا باليوم، ولكن الفتية الذين يعملون في المقبرة أسرع منهما بكثير فيجنيان المزيد من المال أكثر من الفتيات. تأثّر أحمد بينما كان يفكر في واقع هاتين الصغيرتين ومعاناتهما اليومية. حاولت إحدى الفتاتين مواساته وقالت له: “لا تبكِ، سنموت جميعًا”، وأشارت بيدها إلى السماء قائلةً: “سنذهب جميعنا إلى هناك… إلى الجنة. لمَ الحزن؟”
وضح أحمد للفتاتين بأنه ليس مشيعًا وسألهما بعد ذلك عن عائلتهما. أخبرته الفتاتان بأن والدهما توفي في حادثة بناء مأساوية وأن والدتهما تغسل السجاد لكسب الرزق، ولكنه عمل بطيء الوتيرة لأن كمية المياه محدودة في المنطقة. وقالت مريم وليلى لأحمد خلال وداعهما له بأن عليهما مغادرة المقبرة قبل حلول الظلام إذ قد تلاحقهما قطعان كبيرة من الكلاب الشاردة إذا تأخر الوقت.
وقابل أحمد خلال وجوده في المدينة موسى، وهو فتى في الثاني عشر من عمره يقوم بتلميع الأحذية لتأمين قوت يومه. قام أحمد وزوجته لاحقًا بزيارة والدة موسى في منزلها الواقع في منطقة تضم الكثيرين من نازحي الأحواز. أخبرتهما والدته قصة عائلتها المأساوية. وللأسف، لا تختلف قصتها عن قصص الكثيرين من سكان مجتمعها. منذ أربع سنوات، قام المسؤولون الإيرانيون من دون سابق إنذار بفتح السدود المجاورة وطلبوا من السكان إخلاء منازلهم. وتبين أن ما وعدت به الحكومة بأن تعوض لهذه العائلات عن خسارة ماشيتهم وأراضيهم ومنازلهم مجرد أكاذيب. نامت عائلة موسى تحت الأشجار بالقرب من القرية المجاورة لأشهر عديدة وحاولت بعد ذلك استخدام مدخراتها لإعادة بناء منزل العائلة ولكنهم لم يستطيعوا تحمل تكاليف البناء. وبعد عامين على ذلك، تعرض والد موسى لحادث سيارة وتوفي متأثرًا بحروق شديدة في مستشفى مجاور معروف بقصور خدماته الطبية العلاجية.
ويعمل موسى حاليًا هو وأشقاؤه الثلاثة للمساعدة في جمع المال لعائلتهم. يعمل موسى بتلميع الأحذية بينما تقوم سهام ووليد وشيماء وخزعل بغسل القبور وزجاج السيارات عندما يتسنى لهم ذلك. ولا تخلو هذه الأعمال من المخاطر، لا سيما على الأطفال. تقوم سهام بغسل القبور مثل ليلى ومريم ولكنها تبيع الأزهار لجني مبلغ إضافي من النقود لعائلتها، وكانت مؤخرًا قد تعرضت للضرب على يد موظف البلدية لأنها تقطف الأزهار في الحديقة. عندما سألهم أحمد عما إذا كانوا يرتادون المدرسة، أجاب موسى: “لا يذهب أحد منا إلى المدرسة، كيف لنا أن نذهب إلى المدرسة؟ إننا نكافح للحصول على لقمة عيشنا. إن لم نعمل، سننام جائعين”.
وقالت والدة موسى إن في حيّهم أشخاصًا أسوأ حالًا بكثير واصطحبت أحمد وزوجته للقاء إبن جيرانهم سامر. سامر فتى في الثاني عشر من عمره لم يعرف قطّ غرفة الصف. وأوضح سامر: “كيف لي أن أذهب إلى المدرسة بينما يعاني أشقائي الجوع وتحتاج والدتي إلى الإنسولين؟” كما أشار إلى أنه ضحّى بدراسته لكي يؤمّن لأشقائه الصغار مستقبلًا أفضل. وكان والده قد قُتل أيضًا بحادث سير منذ ثلاث سنوات بينما تعاني والدته مرضًا مزمنًا ما يمنعها عن العمل. وأفاد سامر بأنهم لم يتلقوا أي مساعدة بعد وفاة والده لا من الحكومة الإيرانية ولا من منظمات المجتمع المدني. يمضي سامر ساعات في بيع العلكة والتسول على الطرقات لجمع إيجار المنزل والحصول على أي مبلغ زهيد للعلاج.
وفي المقابلة التي أجراها الكاتب مع عادل، وهو ناشط آخر في مجال حقوق الطفل من الأحواز، يروي قصص خمسة أطفال، ياسمين ورغد وخالد وياسر وجاسم، كان قد وثّقها في الأشهر القليلة الفائتة. وهي قصص مؤثرة شائعة بين الأحوازيين.
ياسمين طفلة في الثاني عشر من عمرها “لم تعرف يومًا معنى الطفولة التي يحظى بها معظم الأطفال في الغرب”. التقى عادل بياسمين أثناء تجولها في شوارع الأحواز تتوسل كل مارّ لشراء أزهارها وبطاقاتها أو علكتها.
أما رغد فهي طفلة في الحادي عشر من عمرها تقوم أيضًا ببيع الأزهار للناس في المدينة. لا تستطيع رغد الذهاب إلى المدرسة، وهو حال الكثيرين من أطفال الأحواز، وتعمل بدلًا من ذلك لساعات طويلة لكي تعيل عائلتها. أخبرت عادل بأن عليها العمل لأن والدها عاجز عن ذلك، فهو عليل وقدماه مبتورتان.
يمضي خالد، 11 سنة، وياسر، 12 سنة، ساعات طويلة كل يوم بنبش حاويات القمامة بحثًا عن المواد البلاستيكية أو الخبز اليابس أو أي شيء آخر يمكنهما بيعه لإحضار بعض النقود لعائلتيهما. “كان الفتيان تلميذين مجتهدين ولكنهما اضطرا إلى ترك المدرسة وكسب رزقهما بعد فقد والداهما أعمالهما”.
بالنسبة إلى جاسم، فهو طفل لا يتجاوز الثالثة عشر من عمره يبيع البالونات في شوارع مدينة الأحواز. ويقول لعادل: “ما إن أبيع جميع بالوناتي، أستطيع العودة إلى المنزل، ولكنني في يومي الخميس والجمعة أعود في وقت متأخر جدًا لأنني أذهب إلى مقابر عديدة وأغسل شواهد قبور متسخة”. راح جاسم يصف كيفية تعرضه لاعتداء الحيوانات المفترسة أثناء عمله ليلًا في المقابر. وقال لعادل: “أشعر بالخوف وتراودني أحلام مزعجة عن هذه المقابر”. يجدر بجاسم الذهاب إلى المدرسة والدراسة لا العمل حتى وقت متأخر من الليل ليتعرض لمآسي لا ينبغي بأي طفل أن يواجهها.
للأسف، هذا هو الواقع الذي يعيشه الكثيرون من أطفال الأحواز الذين لم يبلغوا حتى الثالثة عشر من عمرهم، واقع يرغمهم على العمل حتى ساعات متأخرة من الليل في المقابر ويتركهم في مواجهة كوابيس لا تعدّ ولا تحصى. يجازف أطفال آخرون في حياتهم بتمضية أيامهم في العمل كباعة متجولين في طرقات مزدحمة أو في أعمال أخرى خطيرة آملين في جني ما يكفي من المال لتسديد الإيجار أو شراء الطعام أو الدواء ولا تسنح لهم الفرصة بتلقي التعليم أو الاستمتاع بطفولتهم. هذه هي الحياة التي يعيشها طفل الأحواز، أن يكون عاملًا.
يهدد عدم التعليم والتنشئة الاجتماعية لدى صغار السن بإنشاء جيل ضائع يوسّع حلقة من الفقر قد تدوم لأجيال عديدة. لا تحتاج هذه المنطقة المرهقة أساسًا إلى عوامل ضغط إضافية كالفقر والأمراض واليأس لتصبح جزءًا لا يتجزأ من أقلية أخرى…
المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى