يسود التوتر في مدينة القامشلي في أقصى شمالي شرق سورية بين قوات “الأسايش” التابعة للإدارة الذاتية الكردية من جهة، وقوات النظام السوري من جهة ثانية، إذ يتشارك الطرفان السيطرة على المدينة منذ سنوات عدة، وتتكرر الاحتكاكات بينهما بسبب التنافس على النفوذ والسيطرة. وذكرت مصادر محلية لـ”العربي الجديد” أنّ الجانبين تبادلا أول من أمس السبت الاعتقالات، ونشر كل منهما حواجز عند مداخل مناطق سيطرته، فيما تبذل جهود يشارك فيها الروس لتسوية الخلافات بين الجانبين. وبحسب هذه المصادر، فإنّ الخلاف نشب بعد رفض بعض أنصار النظام إغلاق محلاتهم التجارية والالتزام بقرار الحظر الجزئي الذي فرضته الإدارة الذاتية على جميع مناطق نفوذها بسبب فيروس كورونا، ويشمل إغلاق المطاعم والمحلات بعد الساعة الرابعة عصراً. وأضافت أنّ أصحاب المحلات التجارية من مطاعم ومتاجر للمواد الغالية والماركات العالمية الموجودة في حي الوسطى، وهو حي راقٍ فيه أغلبية موالية للنظام، وقريب من “المربع الأمني” للأخير، رفضوا الالتزام بالحظر، خصوصاً في فترة أعياد الميلاد ورأس السنة، فتدخلت قوات النظام لمساندتهم، وهو ما تسبب في احتكاك مع قوات “الأسايش” في حي الوسطى التي اعتقلت 3 عناصر من المخابرات الجوية، إضافة إلى مدير منطقة القامشلي في الحسكة العميد لطفي سمعان و4 من مرافقيه.
وفي المقابل، اعتقلت قوات النظام عدداً من الأشخاص تعتقد أن لهم صلة بالإدارة الذاتية الكردية، فيما حذرت حواجز “الأسايش” دورياتها وعناصرها من دخول المربع الأمني التابع لقوات النظام. وعلى الأثر، تدخلت الشرطة العسكرية الروسية وعقدت اجتماعاً أمنياً بين مسؤولين في “الإدارة الذاتية” والنظام السوري لحل الخلاف وإزالة أسباب التوتر. وذكر “المرصد السوري لحقوق الإنسان” أن القوات الروسية أنهت التوتر أمس وأطلق كلا الطرفين سراح المعتقلين الذين كان اعتقلهم. وفي الوقت نفسه، عمدت القوات الروسية إلى تسيير دورية منفردة مؤلفة من مدرعات عدة في مدينة القامشلي، صباح أمس الأحد، وذلك في إطار تحركاتها الاعتيادية في المنطقة. والواقع أنّ المواجهات بين الجانبين ليست جديدة في محافظة الحسكة التي تقع مع مدنها وقراها عامة تحت سيطرة “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، لكن النظام السوري يسيطر على بعض المؤسسات إلى جانب مطار القامشلي والمربعات الأمنية. وسبق أن أقدمت مليشيا “قسد” على اعتقال رئيس فرع المخابرات الجوية في الحسكة، صالح الجلاد، على حاجز تابع للمليشيا، قبل نحو أسبوع، فيما جرت خلال السنوات الماضية مواجهات عدة بين الجانبين سقط فيها عشرات القتلى والجرحى، وكان آخرها في إبريل/ نيسان الماضي، عندما تعرض موقع لقوات “الدفاع الوطني” التابعة للنظام إلى هجوم بالقنابل في القامشلي، اتُهمت “قسد” بتدبيره. وسبق ذلك بأيام توجيه “قسد” اتهاماً لمليشيا “الدفاع الوطني” بالوقوف وراء تفجير إحدى نقاطها في شارع القوتلي بالقامشلي.
وكانت قد جرت إحدى أكبر المواجهات في سبتمبر/ أيلول 2018، عندما قُتل 18 عنصراً من الطرفين، إثر دخول دورية تابعة لقوات النظام إلى مناطق سيطرة “قسد” في شارع الحسكة بالقامشلي. وفي يوليو/ تموز 2016، جرت اشتباكات دامية بين الطرفين كذلك، عندما سيطرت قوات النظام على كلية الآداب ومشفى الأطفال ومدرسة عياض الفهري بالقرب من حي النشوة داخل المدينة، إلا أنّ هذه الاشتباكات هدأت بعد أيام، حين انسحب النظام من هذه المواقع. وتدور أسباب الخلافات بين الطرفين بشكل أساسي حول التنافس على النفوذ والسيطرة، إذ نشب توتر بينهما على سبيل المثال في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، إثر مداهمة “الأسايش” لمكاتب عدة تعمل في مجال الصرافة والحوالات المالية في كل من مدن الدرباسية وعامودا والقامشلي، ومصادرة معداتها لإجبار أصحاب المكاتب على استخراج تراخيص عمل من “الإدارة الذاتية” بدل تلك التي استخرجوها سابقاً من سلطات النظام. في السياق، قال أحد المواطنين في مدينة القامشلي، عرّف عن نفسه باسم عبد الناصر، لـ”العربي الجديد”، إن “الإدارة الذاتية تتولى عملياً تسيير شؤون الناس، وشكلت مؤسسات خدمية موازية لمؤسسات النظام، بما في ذلك مؤسسات لجباية الضرائب وإصدار الأوراق الرسمية. وهو ما يوقع المدنيين في اضطراب ويكبدهم خسائر، إذ يضطرون إلى دفع الضرائب مرتين؛ واحدة للنظام وأخرى للإدارة الذاتية، ويمتنع الطرفان عن تسهيل أي عملية إدارية ما لم يبرز المُراجع أوراقاً تثبت دفعه الضرائب للجهة التي يريد إنجاز عملية ما لديها”. وأضاف المتحدث نفسه: “غالباً ما يضطر المواطن إلى التعامل مع الجهتين معاً”. ويحتفظ النظام السوري بمربعين أمنيين في مدينتي الحسكة والقامشلي. ففي الحسكة، يبدأ المربع من شارع القامشلي غرباً ويشمل ساحة الرئيس والأبنية الحكومية والقصر العدلي وسرايا المحافظة وقسماً من السوق المركزية، لينتهي عند الحارة العسكرية شرقاً. إضافة إلى سيطرته على فوج جبل كوكب الواقع على بعد 15 كيلومتراً شمال شرقي الحسكة، ويعد أكبر قطعة عسكرية خاضعة لسيطرة النظام إلى جانب فوج 137 في مدينة القامشلي. ويفصل شارع فلسطين وسط الحسكة مناطق التماس بين الجانبين، حيث تنتشر حواجز لكل طرف منهما. وقد وضعت “الأسايش” نقاط تفتيش مقابل كل حاجز عسكري يتبع النظام. والحال نفسه في القامشلي الواقعة أقصى شمال شرقي سورية، حيث يحتفظ النظام بمربع أمني يضم مقرات الأجهزة الأمنية وقسماً من سوق المدينة يصل إلى شارع الوحدة شرقاً، ومطار القامشلي الواقع جنوباً، وهو الوحيد في المحافظة ويعد المنفذ الواصل بينها وبين باقي المدن داخل سورية. وإضافة إلى هذين الطرفين (الإدارة الذاتية والنظام) هناك أيضاً “قوات السوتورو” التي تسيطر على الأحياء المسيحية الواقعة وسط القامشلي، وهي مليشيا متحالفة مع النظام. وتبلغ مساحة محافظة الحسكة بشكل عام نحو 23 ألف كيلومتر مربع، وهي تتصل بحدود مع دولتين، هما العراق شرقاً وتركيا شمالاً، ما يكسب موقعها الجغرافي أهمية استراتيجية، ويفسّر سبب حرص معظم اللاعبين في الملف السوري على الوجود فيها. كذلك تتميز الحسكة بالتنوع السكاني، إذ تضم عرباً وأكراداً وسرياناً وأرمناً ومسلمين وأيزيديين، وتعتبر سلة الغذاء الأهم في سورية، فأغلب المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، مثل القطن والقمح، تزرع فيها، إضافة إلى حقول النفط، حيث كانت تنتج أغلب حاجات البلاد من هذه المادة قبل عام 2011، بينما اليوم تقع معظم الحقول النفطية تحت سيطرة “قسد”. وفي الأشهر الأخيرة، سعت روسيا إلى ربط مناطق شرقي سورية الواقعة تحت سيطرة “قسد” مع باقي مناطق سيطرة النظام السوري، وأشرفت الشرطة العسكرية الروسية على تأمين عدد من الطرق البرية والمعابر المائية بين النظام و”قسد” على نهر الفرات.
في السياق، رأى المحلل السياسي إسماعيل حسن، المقيم في الحسكة، أنّ “العلاقة بين النظام وقسد تقوم على المصالح المشتركة، إذ يحتاج كل منهما إلى الآخر، خصوصاً أنّ قسد تعلن دائماً أنها لا تريد الانفصال عن سورية، وتطالب بدولة فيدرالية لا مركزية”. وأضاف حسن في تصريح لـ”العربي الجديد” أنّ “الحسكة والقامشلي لهما خصوصية من حيث الموقع والتركيبة السكانية، كونهما منفذين مهمين للبلاد على تركيا والعراق، خصوصاً مع وجود مطار دولي في القامشلي يلي مطار دمشق من ناحية الأهمية، فضلاً عن الثروات الكثيرة في المنطقة. والنظام والإدارة الذاتية ومن خلفهما الروس والأميركيون يدركون ذلك، ومن هنا جاءت التوصية الأميركية للإدارة الذاتية بألا تخطو أي خطوة من شأنها المساس بهذه الخصوصية، ووافقت على بقاء العلاقة بين هذه الإدارة وكل من النظام والروس، لكن من دون مبالغة أو الاصطفاف الكامل إلى جانبهما”. والواقع أن العلاقة بين الجانبين لم تنقطع خلال السنوات القليلة الماضية، إذ حافظ النظام على وجود أمني وعسكري هشّ في القامشلي والحسكة، ولكن ازداد نفوذه أكثر نهاية عام 2019 بدعمٍ روسي، بعدما انتشرت قواته في أكثر من منطقة في أرياف حلب والحسكة والرقة بالاتفاق مع “قسد” لمواجهة المعارضة السورية المدعومة من تركيا. كما أنّ التبادل التجاري وحركة العبور لم تنقطع بين مناطق سيطرة الجانبين على الرغم من الضغوط عليهما من جانب الولايات المتحدة، إذ يحرص النظام على إبقاء التواصل مع تلك المناطق لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية وأمنية. كما أنّ “قسد” تريد الاحتفاظ بعلاقاتها مع النظام، ليس لإرضاء روسيا وحسب، بل لإدراكها أن مجمل المكتسبات التي حققتها خلال السنوات الماضية بدعم من التحالف الدولي يمكن أن تتلاشى إذا تمترست عند موقف منغلق تجاه النظام، في ظلّ التسوية السياسية المحتملة المقبلة، بغض النظر عمن يحكم في دمشق.
المصدر: العربي الجديد