وصل جبل الجليد إلى لحظة انهياره، مع “المفوضية العليا للانتخابات”؛ حيث أعلنت قوىً عديدة وشخصيات وفاعليات سورية معارضة كثيرة رفضاً قاطعاً لقرار الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية هذا. وتشكل الورقة الأخيرة المُقدمة من وفد هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية إلى اللجنة الدستورية تخلّيا آخر عن القرارات الدولية، وانطواءً في حيثيات وفد النظام، أي الاحتكام إلى صندوق الاقتراع! مشكلة هذه القوى والفاعليات ليس في نقدها ورفضها ذلك القرار و”الائتلاف” نفسه، والمطالبة بحلّه، واعتباره لاغياً، ولا يمثل السوريين في أيِّ ميدانٍ أو قضية أو تمثيلٍ دولي. مشكلتها في صمتها الطويل عن أيّ خطوة عملية من قبل، وربما عدم إلمامها بما عليه حال “الائتلاف” ووظيفته في خدمة التنسيق التركي الروسي، لإنهاء الثورة، بل ولإنهاء المعارضة ذاتها، وإعادة إنتاج النظام، وعدا ذلك ربما كانت تنتظر دورها لتكون في قيادته!
سقط “الائتلاف” عملياً، منذ قَبِلَ بتشكيل هيئة مفاوضات جديدة، فيها منصتا موسكو والقاهرة، والتنازل عن شروطٍ واجبة للبدء بأيّة مفاوضات مع النظام، فدخل لعبة الدول المتدخلة، أي صار أداة بيدها، وشكّل حكومة مؤقتة تابعة للأتراك، وصمت عن التنسيق إياه، وهذا أدّى إلى تراجع كبير في موقع الثورة والمعارضة عالمياً، وتقدّمت المشاريع الجهادية من ناحية، وبديلا عنه، ومن ناحية أخرى، مشاريع روسيا: أستانة، سوتشي، واللجنة الدستورية، وأخيرا مؤتمر اللاجئين في دمشق. رفض أميركا وأوروبا هو ما أفشل كل مشاريع روسيا وليس “الائتلاف” الّذي دلّت مسيرته، وقراره الجديد، على أنّه أضاع بوصلة القضية السورية بالكامل، وصارت وظيفته المساهمة في إعادة إنتاج النظام عبر الانتخابات المقبلة، والاشتراك فيها.
هذه أحوال ائتلاف “النظام”، ولكن ما هي أحوال بقية المعارضات؟ لماذا لم تتجمع وتتشارك في معارضةٍ جديدة؟ ألم تشترك فيه شخصياتٌ كثيرة، تنتقده اليوم! لنقل إنهم اكتشفوا ممارساته الرديئة لاحقاً، والسؤال: ماذا فعلتم أنتم؟ لا شيء، بكل بساطة.
سمحت خطيئة “الائتلاف” غير المسبوقة بحركةٍ نشطةٍ وفاعلة، هي ردّة فعلٍ، واستثمار في الخطيئة! وهذا ليس سيئا في حدِّ ذاته. أما السيئ، فإن هذه الحركة لا تتجاوز التشهير بـ”الائتلاف” والدعوة إلى معارضة جديدة، ووفق مبادئ الثورة ذاتها لعام 2011. ولكن السؤال: ألم تكن تلك المبادئ موجودة، وتمّ الابتعاد عنها، واحتُكِرَ العمل المعارض لصالح قوىً محدّدة بعينها. وبعد ذلك، تمّ إشراك قوىً وشخصياتٍ لا علاقة لها بالثورة أو المعارضة، وهي ممثلة لدولٍ خارجية فقط “لنتأمل شخصية خالد الخوجة وأحمد الجربا أو أنس العبدة أو نصر الحريري”!
أن تفشل المعارضة المكرّسة يعني أن عليها أن تجلس في بيوتها، وأن تستقيل شخصياتها الأساسية من العمل السياسي. في إطار البيانات التي دعت إلى شطب “الائتلاف”، نجد شخصيات كانت موجودة في قيادة المجلس الوطني السوري، وفي “الائتلاف” وسواه. والسؤال البسيط: أليس من حق الثورة والمعارضة والسوريين، القول: بأيٍّ عيّنٍ تنتقدون وأنتم من فَشِلَ في المعارضات التي تشكّلت في 2011، وفُتحت لكم حينها كل أبواب العالم!؟ الأهم أنهم لم يتقدّموا بأيّة انتقادات لأسباب فشلهم، وربما لا يعلمون أنهم فشلوا؛ فالعالم تآمر عليهم، ولهذا فشلوا فشلاً ذريعاً.. أليست هذه رواية قادة النظام كذلك؛ أيُّ إنكارٍ تعيشه المعارضة والنظام أيضاً.
ما حدث من تطورات في الوضع السوري، ومنذ العام 2011، هو ما يستدعي معارضةً جديدة، حيث لم يكن الفشل من نصيب “الائتلاف”، بل ومعه كل القوى المعارضة للنظام. هذا يعني أن ذلك الفشل، وارتهان النظام لإيران وروسيا قابله ارتهان المعارضة لدول الخليج ولتركيا ولسواها. وبالتالي، لم تعد القضية سوريّةً، وأصبحت إقليمية وعالمية فحسب. مبرّرات وجود معارضة جديدة تكمن في كيفية استعادة المسألة السورية، وليس فقط المعارضة أو الثورة أو النظام حتى. هذا يعني أن أي معارضةٍ جديدةٍ يجب أن تمثل الغالبية العظمى من السوريين، والتي أصبحت مهجرة أو مفقرة، وتعدّت نسبتها 85%. وعدا ذلك، لم يعد السوريون يعرفون هوية موحدة، أو أرضاً ينطلقون منها للنضال الوطني، وصارت كتل منهم تفضّل تركيا أو إيران أو روسيا أو أميركا أو.. أو.. هذه مأساة لثورةٍ شعبية، حدثت من أجل الانتقال الديمقراطي، والعدالة الاجتماعية وتعزيز الروح الوطنية، وإذا بها تصبح ألعوبة بيد الخارج، وأدوات اللعب هي النظام والمعارضة المكرّسة.
مبرّرات مؤتمر جديد للقوى السورية المعارضة كثيرة، والأساس الصلب فيها هو الإعلان عن مشروعٍ وطنيٍّ يتجاوز كل أشكال الانقسام السوريّة، وشطب المؤسسات المكرّسة حالياً، وهذا ينطلق أولاً من رؤية مصالح الأكثرية المهمّشة في نظام ديمقراطي، وعدالة اجتماعية وتحرّر وطني من كل احتلال أصبح في سورية. وثانياً، إيجاد حل عادل للقضايا القومية. وثالثاً، الإعلان عن نظام سياسي يستند إلى المواطنة والدولة الحديثة، والفصل الدقيق بين الأديان والسياسة، ورفض مبدأ الأحزاب الدينية، وإنما تتشكّل الأحزاب وفقاً لبرامجٍ سياسية عابرة للطوائف والمحليّات والمدن، وسوى ذلك سيعني تعزيزاً للهويات ما قبل الوطنية.
أصبحت الانقسامات السوريّة كارثية، وهي حقيقيّة، وبغض النظر عن مقدار الأوهام فيها أو الحقائق. نقطة الانطلاق في طيٍّ ذلك هي الاعتراف بالمسؤولية عن تلك الانقسامات، وإجراء محاكماتٍ عادلةٍ لمن ارتكبوا جرائم بحق السوريين، كائنين من كانوا. والحركة النشطة للمعارضة بعد نومة أهل الكهف لا يجوز استغلالها من أجل تشكيل جسم معارض بشعاراتٍ رنّانة وحمقاء، أو الاكتفاء بأهداف الثورة في العام 2011 وتكرارها. العودة إلى القرارات الدولية، وبدءاً ببيان جنيف 1 وقراري مجلس الأمن 2118 و2254 وسواها، والانطلاق من هيئة حكم مستقلة الصلاحيات أمر صحيح، ولكن ذلك تقادم وتراكم عليه الكثير. المدخل نحو إعادة المسألة السورية إلى السوريين تستدعي العودة، وعدا عن القرارات الدولية، إلى السوريين أنفسهم أولاً. ما يبعث الاطمئنان ويعيد الناس إلى السياسة، هو إبعاد الشخصيات الأساسية في المجلس الوطني وفي الائتلاف وفي هيئة التنسيق. وبالطبع رفض كل الهيئات المتعلقة بالأسلمة والجهادية، والتخلص من التكتكة الفاشلة باحتضان كل قوّةٍ تعلن عن نفسها أنّها ضد النظام، وكذلك رفض كل مال أو علاقة مع دولةٍ، تنطلق من شروط التبعية؛ أصل الكثير من الفشل لدى المعارضة هنا. وبالتالي، القوى الجديدة مطالبة بمشروعٍ وطني، وبقيادة وطنية ومستقلة، وبتمثيل أغلبية السوريين، ويستثنى القتلة وتجار الحروب، فلهؤلاء المحاكم. المشروع ذاك يجب أن يعكس مصالح أكثرية السوريين، ويخفّف من قلقهم بما يخص الانقسامات، وبالتأكيد عليه رفض كل أشكال الاحتلال.
أغلبية شخصيات المعارضة الرافضة للائتلاف الوطني ليست مؤهلة للعبِ دورٍ ثوري؟ مشكلتنا، نحن السوريين، الآن تكمن في: إعادة تكريس معارضةٍ ميتة، أو استمرار “الائتلاف”، ووظيفته إعادة إنتاج النظام، فهل من قوّة ثالثة مستقلة؟ . القدرة على طي صفحة “الائتلاف” الميّت، تفترض ما ذكر أعلاه، وسواه بالتأكيد.
المصدر: العربي الجديد