قد يؤدّي تعيين المرأة في المزيد من الأدوار القيادية إلى حل أزمة الحوكمة في لبنان.
تشهد البلاد سنةً هي الأسوأ في تاريخها منذ تأسيس دولة لبنان الكبير في العام 1920، وسط تخبّطها في أزمات مالية واقتصادية واجتماعية وصحية متلاحقة. ويمكن القول إن لبنان لم ينعم أبدًا بالاستقرار طوال القرن الذي مضى على قيامه، بل تخلّلته حروبٌ واغتيالاتٌ واحتجاجاتٌ شعبية. لكن الثابت الوحيد كان ولا يزال غياب المشاركة النسائية الواسعة في الحياة السياسية، بيد أن هذه المشاركة أساسية من أجل بناء دولة ناجحة ومزدهرة، وذلك لجملةٍ من الأسباب.
يُعزى السبب الأول إلى قدرة النساء على التعامل مع الأزمات بشكلٍ جيّد وفعّال. ففيما يرزح قادة العالم أجمع تحت وطأة وباء كوفيد-19 وتبعاته، يبدو أن الدول التي تقودها نساء تجاوبت مع هذه الأزمة على نحو أفضل من الدول التي يحكمها رجال. فقد خلُصت إحدى الدراسات إلى أن القيادات النسائية كانت أكثر كفاءة بكثير في محاربة فيروس كورونا. يُشار إلى أن هذه الدراسة استندت إلى عوامل عدة لتقييم استجابات الحكومات للوباء، وشدّدت على أن نوع الجنس يُعتبر على الأرجح سببًا أساسيًا في نجاح الاستجابة، ذلك أن التعاطف والموقف من الخطر المُحدِق ليسا أقل أهمية من اتخاذ قرارات حاسمة وواضحة. وختمت الدراسة بأن القادة النساء تفوّقن على نظرائهن الذكور من حيث الاستجابة السريعة لوباء كورونا.
أما السبب الثاني فهو أن النساء أكثر مراعاةً لقضايا حقوق الإنسان بحكم نضالهن الطويل من أجل تحقيق المساواة بين الجنسين. لذا، قد يعزّز تعيين النساء في مناصب عامة التوجهات الحكومية حيال القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان، ما يمهّد الطريق أمام بناء مجتمع أكثر مساواة.
تدرك النساء كذلك العراقيل الكبرى التي تعترض سبيلهن. في الواقع، قبل أي حديث عن مشاركة نسائية في الحياة السياسية، على اللبنانيين البحث عن السبل الآيلة إلى تحسين وضع النساء في المجتمع ككل. ففي أوائل هذا الشهر، رفعت منظمة هيومن رايتس واتش تقريرًا إلى لجنة الأمم المتحدة المكلّفة بتقييم مدى امتثال لبنان لاتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة. وأكّد التقرير على أن البلاد لم تُحرز أي تقدّم في تطبيق عدد من التوصيات التي تضمّنتها المراجعة السابقة في العام 2015، ومن ضمنها وضع قانون موحّد وشامل للأحوال الشخصية يؤمّن المعاملة المتساوية لجميع المواطنين، وتعديل قانون الجنسية التمييزيّ للسماح للمرأة اللبنانية المتزوّجة من رجل غير لبناني بمنح الجنسية لأولادها.
ونظرًا إلى أن اللبنانيين يخضعون إلى قوانين الأحوال الشخصية الخاصة بطوائفهم، بدلًا من قانون وطني موحّد للأحوال الشخصية يراعي المساواة بين جميع شرائح المجتمع اللبناني، لا تملك الدولة صلاحيات تُذكر في المسائل المتعلقة بالزواج وحقوق الملكية ورعاية الأطفال وغيرها. وتتحمل النساء الضرر الأكبر في هذا الصدد، إذ يقعن يوميًا ضحايا العنف الأسري والاعتداء الجنسي والتمييز وغيرها من أشكال المعاناة.
السبب الثالث الذي يدفع إلى تعزيز المشاركة النسائية في الحياة السياسية اللبنانية هو الحدّ من التبعات المدمّرة الناجمة عن منع المرأة، وهي نصف المجتمع، من صياغة سياسات تؤثّر في حياتها. فبعض الطوائف المحافظة جدًّا ترى أن دور المرأة يجب أن يقتصر على الأعمال المنزلية، وتعارض مزاولتها أي نشاط في المجتمع. وقد ساهمت هذه الأفكار التي عفا عليها الزمن في إدامة هذه القوانين الجائرة. لذا، قد يشكّل تعيين النساء في مناصب حكومية قيادية خطوةً أولى على طريق إزالة الوصمة الاجتماعية التي تحيط بانخراط المرأة في المجال السياسي. ومن خلال البدء بتسجيل سوابق في هذا الإطار، سيبني المجتمع واقعًا جديدًا، تصبح فيه مشاركة المرأة في السياسة من البديهيات.
في العام 2016، استحدثت الحكومة أول وزارة دولة لشؤون المرأة في لبنان، إنما عُيِّن على رأسها رجل، ما وجّه إهانة سافرة للنساء. لكن في وقت لاحق، تولّت ريا الحسن وزارة الداخلية، لتصبح بذلك أول امرأة تشغل هذا المنصب في منطقة الشرق الأوسط، وتعهّدت آنذاك بتسخير منصبها من أجل نُصرة حقوق المرأة.
لكن تعيين المرأة في مناصب قيادية تُعنى بصنع القرار ليس كافيًا، إذ لا يُراد به أن يبقى مجرّد خطوة رمزية. بل لا بدّ أن نميّز بين ضمان حضور نسائي في المعترك السياسي، وبين الحرص على تولّي نساء كفؤات وقادرات وتقدّميات زمام المسؤولية العامة.
فالأحزاب السياسية في لبنان هي غالبًا مصالح عائلية، والنساء اللواتي وصلن إلى السلطة ورثنَها في الكثير من الحالات من آبائهن أو أزواجهن بعد وفاتهم. وهذه الحالات لا تُحدث أي تغيير حقيقي مع الوضع القائم، ولا تضمن وصول نساء كفؤات إلى مناصب قيادية. بل تسهم ببساطة في ترسيخ هذه البنى التقليدية في المجتمع، والتي بموجبها تنخرط المرأة في الحياة السياسية للتعويض عن غياب الرجل ليس إلّا.
الأهم، لن يكون التغيير مستدامًا ومؤثرًا ما لم يتم إدخال تعديلات جذرية على القوانين وإزالة العقبات القانونية التي تعيق حصول المرأة على حقوقها. خير مثال على عبثية الوضع الذي نعيشه اليوم أن المرأة إذا وقعت ضحية العنف الأسري يمكن أن تحصل على حكم لصالحها في محكمة مدنية، لكن للمحكمة الدينية صلاحية إبطال هذا الحكم في حال تعارض مع القانون الديني. بعبارة أخرى، يمكن للسلطات الدينية نقض قوانين الدولة.
خلال ثورة تشرين الأول/أكتوبر 2019، طالب المتظاهرون اللبنانيون نساءً ورجالًا بترقية حقوق المرأة، عبر إجراء تعديلات على القوانين اللبنانية تضمن حماية المرأة وقيام دولة مدنية. فهم يدركون جيّدًا أن هذه الدولة هي الوحيدة القادرة على دفع عجلة التغيير الحقيقي، إذ تكفل سنّ قوانين تساوي بين جميع المواطنين بغض النظر عن جنسهم أو طائفتهم.
تتمثّل الخطوة الأولى على هذا المسار في إقرار قانون موحّد للأحوال الشخصية يضمن المساواة في المعاملة بين الرجل والمرأة، ويشكّل حجر الأساس الذي تُبنى عليه تحوّلات أكبر في الحياة السياسية العامة. لذا، الآمال معقودةٌ على أن تهبّ رياح التغيير حاملةً معها بشائر تبدُّلٍ في المشهد السياسي. فقد آن الأوان لكي نرى إنجازاتٍ تُصنَع على أيدي نساء لبنان اللواتي لا تنقصهنّ الموهبة أو الكفاءة من أجل النهوض بوطنهنّ في هذه المرحلة العصيبة التي يمرّ بها.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط