بعد احتلال العراق عام 2003 سارعت أميركا إلى جمع بعض الأشخاص كممثلين للشعب العراقي من كل مكوناته وأطيافه، ليوافقوا على دستور تم إعداده سابقاً من طرف بول بريمر الحاكم المدني للعراق بعد احتلاله، وتمت الموافقة على ذلك الدستور، ولم يدرك وقتها العراقيون خطورة ما يتضمنه هذا الدستور من مواد مزقت وحدة العراق، وخاصة مسألة تقاسم السلطة طائفياً وعرقياً، وإنشاء إقليم كردي في شمال العراق، وصار العراقيون في الدستور الجديد ليسوا أبناء شعب واحد، بل تم تقسيمهم طائفياً وعرقياً، أصبحوا جماعات طائفية وعرقية، وهذه الجماعات هي الطريق الوحيد للتعامل مع الدولة، بدلاً من أن تكون المواطنة هي الرابط بين المواطن والدولة.
دستور بريمر تمت الموافقة عليه بعد اتفاق المكون الشيعي والمكون الكردي، وأعطى الدستور ممثلي المكونات فيتو على أي تعديل دستوري لا يوافقون عليه، حيث نص الدستور على أن أي تعديل يجب أن يحظى بموافقة ممثلي الطوائف والإثنيات، وهذا ليس من السهل تحقيقه، مما جعل تعديل أي مادة دستورية بعد ذلك عملية شبه مستحيلة.
وكما يقول المثل العربي “العاقل من اعتبر بغيره”، وخاصة أن الحالة العراقية مشابهة في كثير من النواحي للحالة السورية، فالتركيبة العرقية والطائفية متشابهة إلى حد ما، والمشكلات التي عانى منها العراق وتعاني منها سوريا حالياً أيضاً متشابهة في بعض جوانبها.
ومن أهم أوجه التشابه بين ما جرى في العراق ويجري حالياً في اللجنة الدستورية السورية:
طريقة تشكيل اللجان الدستورية، ففي العراق تم تشكيل لجنة من خلال التمثيل الطائفي والعرقي وليس من خلال تمثيل حقيقي وانتخاب للأعضاء، أو اختيار أهل الاختصاص، وهذا ماجرى أيضاً في اللجنة الدستورية السورية من تقسيم اللجنة لثلاثة أقسام، قسم للمعارضة، وقسم للنظام، وثالث لممثلي المجتمع المدني اختارتهم الأمم المتحدة، فممثلو المعارضة لا تُعرف الطريقة التي تم بها الاختيار، ونتج عنها ممثلين نسبة الكفاءات الدستورية بها قليلة مقارنة باللجنة الممثلة للنظام، وكثيرٌ من المكونات والتجمعات السياسية أعلنت عدم وجود ممثلين لها في اللجنة، أما ممثلو النظام فتم اختيارهم حسب الولاء، وعلى الرغم من ذلك كان مستوى الكفاءات الدستورية بها أكبر من ممثلي المعارضة، والقسم الثالث كان من اختيار المبعوث الدولي السابق ديمستورا، وعدد لابأس به منهم من المقيمين خارج سوريا منذ سنوات طويلة، وهم بعيدون عن مشكلات المجتمع السوري.
مسألة المركزية أو اللامركزية أو الفيدرالية، فالدستور العراقي في المادة 115 ذكر صلاحيات حكومة المركز، وحكومات الأقاليم، ففي حالة الاتفاق على تبني الفيدرالية في سوريا من الممكن أن تؤسس لتقسيم سوريا في ظل الظروف الحالية، أو على الأقل ستعيش سوريا مشكلات مشابهة لما يشهده العراق، وخاصة الاستفتاء الذي جرى في إقليم كردستان العراق على الانفصال.
مسألة الدين والعلمانية، والمؤسسات والتمثيل الطائفي وتقاسم السلطة، وعلى الرغم مما يبدو من تصريحات أغلب الأطراف السورية بأن هناك اتفاق على علمانية الدولة، لكن ستكون العلمانية وفق أي منظور، فنماذج العلمانية عديدة في العالم، ولكل مجتمع خصوصياته، وهذه القضية ستواجه معارضة كبيرة في ظل الاحتقان الطائفي الحالي في سوريا.
مسألة الفصل بين السلطات وصلاحيات كل سلطة، وهذه من أهم القضايا، ومن المستبعد أن يتم التوافق حولها، كذلك شكل نظام الحكم، فالنظام الرئاسي مطبق في سوريا منذ عقود، والانتقال لشكل آخر كالنظام البرلماني أو شبه الرئاسي سيولد في بدايته معضلات كبيرة ليس من السهل تجاوزها، وهذا ما يعيشه العراق حتى الآن بعد 17 سنة من الدستور، فكل هذه المسائل تحتاج لحالة من الاستقرار وحوار مجتمعي للوصول لتوافق حولها،
لم يتم تنفيذ أي شيء من القرار 2254 حتى الآن، وروسيا أرادت استغلال الوقت وحرف القرار عن مساره، ورغم تكرار اجتماعات اللجنة الدستورية المصغرة والتي تضم 45 عضوا، 15 لكل طرف، وتأجيل كثير منها بسبب فيروس كوفيد 19، مازال العمل ببدايته، ويبدو أنه يحتاج لسنوات إذا استمر بهذا الشكل، في ظل غياب جدول زمني محدد، فهناك كثير من المقترحات التي قدمتها المعارضة أو النظام، لكن يبدو أنه من الصعب أو حتى من المستحيل أن تنال موافقة الطرف الآخر، وهذا يعني أن هذه اللجنة سوف تبقى تسير في حلقة مفرغة، ولن تصل لنتيجة.
وفي ظل غياب التمثيل الحقيقي لكل المكونات السورية، أعتقد أنه ينبغي عدم الخوض في قضايا جوهرية، فالوضع السوري في ظل الانقسامات الطائفية والصراع العسكري، ليس وضع مثالي لإعادة النظر بها، كذلك لا توجد في سوريا إحصاءات دقيقة لنسبة كل مكون، وكل ما يتم تداوله من نسب هو عبارة عن أرقام تقديرية، مع فوارق كبيرة مع ما يدعيه المكون نفسه من نسبته السكانية، ومع ما تدعيه المكونات الأخرى.
قد يكون الحل الأسلم والأسرع هو الاعتماد على الدساتير السابقة، وخاصة دستور 1950 الذي يُعد أكثر الدساتير توافقياً، وتعديل بعض المواد الإشكالية به، وإضافة أو تعديل مواد تتوافق مع العصر الحالي، وأن يكون دستورا مؤقتا، يتم إعادة النظر به بعد 5 سنوات من استقرار الأوضاع، ليتم التوافق على دستور دائم، وتطرح وقتها كل هذه القضايا الجدلية للحوار المجتمعي للوصول لتوافق حولها، فالدستور يجب أن يكون توافقياً لأنه العقد الاجتماعي الذي يحدد العلاقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، ولا يكفي أن توافق عليه الأغلبية فقط.
فالمجتمع السوري بحاجة أكبر حالياً لإيجاد حل سياسي وحل لمشكلاته الاقتصادية، أكثر من الخلاف على قضايا دستورية ليس هناك ضامن حتى الآن أنه سيتم التوافق أو تطبيق هذا الدستور في حال كتابته، أو أن يلقى موافقة شعبية، فالمشكلة في سوريا لم تكن دستورية بالمقام الأول، بالقدر الذي كانت مسألة احترام الدساتير والالتزام بها.
فالتعجل بوضع دستور كما حصل بالتجربة العراقية قد يكلف السوريين سنوات طويلة بعدها من التمزق، فالعراقيون وبعد 17 سنة من الدستور لم يتمكنوا من إجراء أي تعديل جوهري على تلك المبادئ الدستورية التي وضعها دستور بريمر، على الرغم من الفشل الذي اكتنف كل مؤسسات الدولة العراقية، وتفشت الطائفية والعرقية بشكل أكبر، مما جعل البلد ممزقاً أكثر مما كان عليه في السابق.
هناك كثير من الدول عاشت كذلك تجارب مشابهة للحالة السورية ويمكن الاستفادة من تجارب الدول، وكلها لجأت لخيار الدستور المؤقت للبلاد، ريثما يتم التوافق على الدستور الدائم الذي يتطلب أجواء من الاستقرار والتوافق، وهو الخيار الأنسب لسوريا، لأن المرحلة الانتقالية تحتاج هيئات وسلطات وصلاحيات انتقالية كون البلد خارج من حالة حرب.
وتشكيل اللجنة الدستورية لابد أن يكون عبر مؤسسات منتخبة بشكلٍ ديمقراطي، وأن يكون له آليات محددة للاختيار من تمثيل جغرافي، وتمثيل لجميع مكونات الشعب من دون تهميش أو إقصاء، وخاصة أن أحد أسباب ما جرى بسوريا هو شعور بعض فئات الشعب بالتهميش، وأن كل ما يصدر من دساتير وقوانين لا تعبر عنهم وتمثل تطلعاتهم، حيث يتبين من الأسماء ضعف الخبرة لدى القسم الأكبر، وقائمة المجتمع المدني تم تغييرها عدة مرات، وتم تفريغها من جميع الخبراء الدستوريين.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا