الكتاب دراسة شاملة لحزب العدالة والتنمية التركي، سواء في التشكيل والوجود، او ضمن الحالة السياسية التركية وتفاعلاتها الداخلية والإقليمية والدولية، ويطل على كل ذلك حتى الانتخابات النيابية الأخيرة، وما قبل محاولة الانقلاب الفاشلة في ١٥ تموز ٢٠١٦ م.
1.حزب العدالة والتنمية هو ابن شرعي للتيار الإسلامي الذي أسسه نجم الدين أربكان منذ خمسينات القرن الماضي، قياداته الأساسية : رجب طيب أردوغان وعبد الله غل ينحدرون من كوادر الأحزاب الإسلامية التي تنوعت أسماؤها وكان آخرها حزب السعادة وقبلها الفضيلة، وكلها كانت تشكيلات تتجاوز المنع القانوني الذي حصل بشكل دوري عبر العقود الماضية، بسبب الانقلابات العسكرية المتكررة عبر عقود.
2. تشكل التيار الإسلامي التركي كرد فعل على التيار العلماني التركي، الذي كان حادا اتجاه الإسلاميين والتاريخ العثماني، والامتداد الإقليمي للأتراك بعمقهم الإسلامي، حيث حول الحرف التركي من الحرف العربي الى الحرف اللاتيني، ومنع الأذان باللغة العربية لفترة من الزمن، ومنع الزي الإسلامي خاصة الحجاب في دوائر الدولة والمدارس وحصلت تبعية شبه كامله للغرب الاوربي وصارت تركيا متغربة بالكامل، كان التيار الإسلامي استجابة الهوية المجتمعية التركية للتحديات التي واجهتها.
3. وكان التيار الاسلامي استجابة لمطالب الشعب التركي لمواجهة تغول الدولة العميقة، المكونة من قيادات حزب الشعب الجمهوري (حزب أتاتورك) وقيادات الجيش والأمن والقضاء والصحافة، هذا التكوين المسيطر على تركيا واقتصادها والحراك السياسي فيها، كذلك على شبكة المصالح مع الغرب الاوربي والامريكي وحلف الناتو والدعم (لاسرائيل)..الخ. كل ذلك أدى الى استعصاءات اقتصادية ومجتمعية دائمة، التضخم فلكي والمديونية الخارجية كبيرة، كانت الوزارات التي يرأسها ويشارك فيها الإسلاميين مثل عدنان مندريس ونجم الدين اربكان تمثل حالات إنقاذية للدولة والشعب التركي، ومع ذلك كانت الدولة العميقة وبدعوى الدفاع عن العلمانية تصنع انقلاباتها العسكرية بمعدل انقلاب كل عشر سنوات ، بعض الانقلابات كان عنيفا، حيث اعدم بانقلاب الستينات من القرن الماضي رئيس الوزراء عدنان مندريس ومعه آخرون، وسجن ونفي ومنع آخرين من ممارسة السياسة لفترة من الزمن؛ مثل نجم الدين أربكان ورجب طيب أردوغان.
4.تطورت الحركة الإسلامية التركية. في مواجهة الواقع و تغول الدولة العميقة، وبدأت التفكير بمعالجة مشكلات الواقع على كل المستويات، سرعان ما أدرك أردوغان وصحبه ان خطاب الأسلمة العلني والفج سيقدم المبرر دائما لافتعال انقلاب من العسكر أو اعتقالات ومحاكمات و سجون، فسرعان ما أكدوا على علمانية الدولة، ولكن عالجوا اختلافهم عن الآخرين بأن هناك قراءة خاطئة للعلمانية، وانتصروا لحرية المعتقد وحرية اللباس الديني، ونسبوه لحقوق الإنسان، انتصروا لمجموع الناس من خلال مواجهة مشكلة التضخم الاقتصادي والفساد ونهب الدولة، ومن خلال التحدث باسم الريف والعمال و المهمشين اجتماعيا، وقدموا نماذج ناجحة عن ادارتهم المجتمعية عندما نجحوا في الوصول لبعض البلديات والنجاح فيها، كما حصل في بلدية إسطنبول بادارة أردوغان نفسه، حيث حل مشكلة الماء والكهرباء والنظافة، وأعطى لاسطنبول وجها حضاريا ستفتخر به، كما أنهم عالجوا كل المشاكل التي يعيشها الأتراك، منطلقين من أن تركيا بلد كبير وخيراته كثيرة وشعبه معطاء، لذلك يستحق التقدم.
5.اختلف أردوغان وصحبه مع استاذه نجم الدين أربكان، وأعلنوا حزبهم الخاص حزب العدالة والتنمية في 2001، وخاضوا انتخابات 2002 النيابية باسم حزبهم الجديد، وركزوا فيه على الجانب الاجتماعي والاقتصادي والمجتمعي والخدمي للناس، وتركوا الموضوع العقائدي دون إفصاح، بل اعلنوا عن دور وظيفي لهم، حيث تواجد في حزبهم معهم المسلم المتدين والعلماني والقومي، المهم هو التوافق على البرنامج السياسي للحزب، الذي انصب اهتمامهم على محاربة تغول الدولة العميقة على الدولة والمجتمع، ولكن بتؤدة وبتدرج، والعمل على معالجة مشاكل البلاد الاقتصادية، وإعطاء الأولوية لمجموع الناس وخاصة الفقراء والفلاحين والعمال والمهمشين، واعلنوا استراتيجية الاستدارة الى الدول العربية والإسلامية والتعامل معها بإيجابية، واعتماد منطق المصالح المتبادلة، وتصفير المشاكل مع دول الجوار، كما أعلن عنها منظر الحزب -ورئيس وزرائه في وقت ما- احمد داوود اوغلو، والتركيز على الانفتاح على أوروبا، والسير حثيثا نحو تنفيذ شروطها لالتحاق تركيا بها، مما انعكس ايجابيا على قضايا حقوق الإنسان، و العمل حثيثا لمعالجة مشكلة ال ب ك ك حزب العمال الكردستاني من مستواها الأمني الى المعالجة الاجتماعيه والاقتصاديه والثقافيه للأكراد عموما في شرق تركيا المهمش والضائع في حرب الدولة على الإرهاب لعقود، الذي انعكس سلبا على الحياة و على كل شيئ هناك.
6. نجح حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2002، واعطته غالبية كافية ليستلم الحكم، وينفذ برنامجه الذي ظهرت نتائجه الايجابية على الاقتصاد وعلى العلاقة مع دول الجوار، ومع أوروبا وعلى حياة الناس، دخلت تركيا في طور نهوض على كل المستويات، وهذا ما حصل ايضا في الانتخابات التالية، التي أكدت نفس النتيجه وكذلك في الانتخابات التي تلتها عبر اثنا عشر عاما، وعندما لم يحصل الحزب على النسبة الكافية لتشكيل الحكومة بمفرده، ولم تتوافق الأحزاب على حكومة ائتلافية، أعيدت الانتخابات وفاز حزب العدالة والتنمية مجددا، واستلم الحكم وهو مازال الحاكم في تركيا للان.
7. نستطيع تقسيم حكم حزب العدالة والتنمية، لمرحلتين الاولى ما قبل الربيع العربي 2011 م، يعني في فترة التسع سنوات الأولى حيث كان الحزب يتقدم على كل الصعد، وينهض بالواقع الاجتماعي، ويحارب تغول الدولة العميقة بصبر ودأب، حيث واجه عبر البرلمان النصوص الدستورية التي وضعها الانقلابيون العسكر في 1960 و1980 التي كانت تعطي الهيمنة المطلقة للعسكر على الدولة والمجتمع، تعطيهم الحق أن ينقلبوا على السلطة الحاكمة لمجرد الشبهة بأن هناك انقاص من هيمنة العسكر او التعدي على قيم العلمانية المدعاة، وكل ذلك كغطاء لمصلحة الدولة العميقه المهيمنه، وهذا ما حصل فعلا في 2007، وواجه حزب العدالة والتنمية هذا التغول ورفعت دعوة لمحاكمة اردوغان (كرئيس للحزب ورئيس للوزراء)، ودعوة لحل الحزب ايضا لكنها لم تنجح، واستمر الحزب مستغلا أغلبيته النيابية مسقطا النصوص الدستورية التي تجعل العسكر فوق الدولة والمجتمع وفوق الدستور ايضا، نجح الى حد كبير،و استفاد الحزب من المطالب الأوروبية سواء موضوعات حقوق الإنسان، أو الشفافية الاقتصادية او تعديل الدستور، كما انه استطاع إيصال وزير خارجية حكومة الحزب عبد الله غول لمنصب رئيس الجمهورية التركية، رغما عن رفض الدولة العميقة لذلك وتهديداتها، كما أنه حصل مكسبا جديدا عندما فوض انتخاب الرئيس الى الشعب وليس البرلمان، وحيث انتخب أردوغان باستفتاء شعبي كأول رئيس لتركيا بهذا الشكل.
8.أما مرحلة حكم حزب العدالة والتنمية بعد الربيع العربي، و دخول الدولة التركية كداعم للربيع العربي في مصر، ومن ثم الموقف المعادي لرئيس مصر السيسي بعد انقلابه على الثورة هناك، او محاولة اقناع الاسد بالاستجابة لمطالب الشعب السوري ورفضه لذلك، ودعم تركيا للثورة السورية، وتحملها لعبئ اللاجئين السوريين الذين فاق عددهم الثلاثة ملايين والنصف، او استقطابات العداء لايران وروسيا الداعمين الاساسيين للنظام السوري، واسقاط الطائرة الروسية، واعادة سياسة العداء والاستقطاب، واعادة تفعيل الأعمال العدائية لل ب ك ك ضد تركيا، بعد ان كانت معالجات اردوغان للقضية الكردية تسير باتجاه الحل، فيما سمي السلام الاجتماعي. وحيث صار للأكراد حزبهم الموجود تحت قبة البرلمان، و كذلك رفض تركيا حزب ال ب ي د الكردي جناح لل ب ك ك في سوريا، المدعوم من النظام السوري وروسيا وأمريكا، وأعماله الانفصالية كمشروع دولة كردية، عبر العمل العسكري، واعمال التهجير والتطهير العرقي للسكان الأصليين العرب و التركمان، وكيف تخلى الامريكان والاوربيين عن تركيا، وتركوها ضحية صراعاتها دون دعم حقيقي، وزاد الأمر سوءا أعمال الدولة الاسلامية “داعش” على الحدود التركية او داخل اراضيها، التي هددت الامن الداخلي والمجتمعي، كل ذلك دفع الدولة التركية بقيادة حزب العدالة برئاسة اردوغان، ان تعيد حساباتها وتعدل من سياساتها.
9. استطاع الحزب أن يقدم خدمات اجتماعية كبيرة للشعب التركي عموما، حيث أصبحت تركيا من دول العشرين الأكثر تقدما في العالم، وحيث تقدمت في معايير حقوق الإنسان، وفي الخدمه الاجتماعيه والصحيه، ومعدل النمو، و تطمح لأن تكون في المرتبة العاشرة دوليا في ذكرى ميلاد الدولة التركية المئوية في 2023م، كما أن الحزب يسعى لان يمد نشاطه السياسي والإنساني عبر الدولة التركية الى عمقه العربي والافريقي، ويجعل منهم شريكا اقتصاديا حقيقيا، ويركز الحزب أيضا على تنفيذ المعايير الأوروبية لتلتحق تركيا بالاتحاد الأوروبي، ويعتبر الحزب هذا هدفا استراتيجيا يعمل عليه، رغم أنه اختلف مع أوروبا حول موضوع الأرمن وادعاء مجازرهم في تركيا في المرحلة العثمانية، وموضوع الإرهاب والموقف من حزب ال ب ك ك الكردي، الذي تعتبره تركيا حزبا إرهابيا.
10. استطاع الحزب أن ينغرس أكثر فأكثر في البنية المجتمعية التركية، حيث زادت نسبة مؤيديه مع ممارسته الحكم، أعداد أعضاء الحزب المسجلة زادت عن العشرة ملايين عضو، وإعداد المنتخبين تزايدت مع الوقت من عشرين مليون لتصل الى 32 مليون تقريبا، يعني بحدود الخمسين بالمئة من عدد الأتراك الذين يحق لهم الاقتراع، وهذا مؤشر ايجابي جدا، الحزب يزيد مؤيديه عن مجموع جميع الاحزاب الاخرى، والاهم ان ممارسته السياسية والمجتمعية والاقتصادية كلها لقيت رضى شعبيا، تزايد عبر سنوات حكمه.
11. ليس خافيا التطور في كل شيئ في تركيا، الجسور، الأنفاق، المترو وتوسعه، تحسن الاقتصاد، الضمان الاجتماعي والصحي، والاهتمام العلمي، ودعم القطاع التعليمي والإنساني والمجتمع المدني، تحسن مستوى المعيشة، دخولها نادي الدول العشرين الأكثر تقدما، وطموحها لتحصل على المرتبة العاشرة في عام 2023.
12. تعمل تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية لتكون جزء من أوروبا، وتصيغ دستورا أكثر ديمقراطية (أصبح أمرا واقعا الآن) ويعبر عن التوافقات المجتمعية، ويلغي تغول الجيش والدوله العميقة ويحجّم القضاء، ويعمل لمحاربة تنظيم الخدمة (فتح الله غولن – الكيان الموازي) المتغلغل في كيان الدولة، والذي يعمل لأجندات غير تركيه، التي تخدم غولن وداعميه ، الغرب وامريكا وحتى (اسرائيل).
13. واستطرد ما لم يغطيه الكتاب زمنيا، هو الاستدارة السياسية. للسياسة التركية بعد استقالة أحمد داوود اغلوا من رئاسة الوزراء، حيث تم تجاوز الخلاف مع روسيا، وإعادة العلاقات معها الى مرحلة التوافقات الاقتصادية، ووضع خطوط توافق معها في القضية السورية، سمحت لتركيا أن تتدخل في سوريا داعمة للجيش الحر في عملية درع الفرات التي واجهت داعش، وحجّمت ال ب ي د وقوات سوريا الديمقراطية الانفصالية، واستعادة جرابلس وسيطرة تركيا على مساحة تزيد على الفين كم٢، وهي تطمح لتوسع سيطرتها على مساحة خمسة آلاف كم، وتعمل لمنع تشكيل كيان كردي انفصالي، و تقف الآن عند حدود مدينة الباب لتحريرها (تحررت فعلا) من داعش، وتعمل لاسترداد منبج من قوات ال ب ي د، وكذلك صنعت توافقات اقتصادية مع إيران وترك اختلاف المواقف من سورية للمساعي الدولية بقيادة أمريكا وروسيا، وكذلك حلت مشاكلها العالقة مع (اسرائيل) حيث تجاوزت موضوع السفينه والتعويض والمساعدات لغزة. المهم خرجت تركيا من دائرة الاستهداف من كل الأطراف ، صنعت اسطفافاتها وفق مصالحها القومية، محاربة داعش والب ك ك وال ب ي د ومنع تشكيل كيان انفصالي كردي في شمالي سورية، والعمل لخلق منطقة آمنة في الشمال السوري تكون ملاذا آمنا للاجئين السوريين بدعم تركي كامل.
14. وكذلك النصر الاستراتيجي الذي حققه الشعب التركي، والدولة والأحزاب التركية جميعها، وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية، حيث تم إسقاط الانقلاب العسكري في ١٥ تموز ٢٠١٦م، الذي أعطى لحزب العدالة دفعه للامام و بالتوافق مع القوى السياسية، وبرضى مجتمعي لاستئصال الكيان الموازي (جماعة غولن)، ولتنظيف الجيش والأمن والقضاء والصحافة واغلب مرافق الدولة من امتدادهم، ليتوافق الكل على الإصلاحات الدستورية ومواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية. بقوة وثبات.
اخيرا: اؤكد ان الكتاب أوسع من هذه الاطلاله ويستحق القراءة، وهو دراسة علمية موضوعية قدمت لقارئي العربية معلومات عن حزب العدالة والتنمية وتركيا ، وعن مرحلة مهمة ودقيقة في العقود الأخيرة لتركيا، قارئة مستقبل يصنعه الأتراك بثقة واقتدار، مستفيدين من ديمقراطيتهم ومن نجاحاتهم على كل المستويات تقريبا.
واننا كعرب وكسوريين نحتاج لتمثّل هذه التجربة سواء في أداء حزب العدالة والتنمية أو ممارسته للسلطة او دوره الاجتماعي والاقتصادي وعلى كل المستويات في سوريا المستقبل، سوريا دولة الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والحياة الأفضل.