حاول بعضهم وضعه في درجة مساوية لوزير الخارجية الأميركية الأسبق، هنري كيسنجر، الذي كان له أثر في السياسات الدولية في السبعينيات، بأفكاره ومناوراته الدبلوماسية ودهائه. ولكن وبما أن سورية ليست بحجم فعالية الولايات المتحدة وتأثيرها العالمي، لا بأس من اعتبار وليد المعلم، وزير خارجية نظام الأسد، من نجباء مدرسة كيسنجر.
سيطلق عليه بعضهم صفات كثيرة: زعيم تيار”البراغماتية المبدئية”، أو أحياناً “الحمامة” في نظام راديكالي، واعتباره الورقة الرابحة لهذا النظام في فتح العلاقات مع الغرب، لما يملكه من شبكة علاقات مهمة مع دبلوماسيي الغرب، ولمعرفته قوانين اللعبة الدبلوماسية، وأساليب إدارتها، في الغرب والشرق، وبالتوازنات الدولية، واتجاه رياح المتغيرات الدولية، والقدرة على تحديد الموانئ الآمنة لسفن السياسة الخارجية السورية، وربما العربية. ولكن التطورات ستثبت أن ليس للرجل شخصية متفرّدة، ولا أسلوب مستقل، بقدر ما يمثل دورا يريده النظام الحاكم منه، وهو ليس ألمعيا ولا مبادرا، إنما يتم تسييره عبر “ريموت كونترول” في قبضة القصر الرئاسي وأجهزة المخابرات، بدليل أنه كان، في السنوات الأخيرة، يعاني من بطالة سياسية، بعد أن استولت بثينة شعبان على مساحة كبيرة من دوره. كما أصبح للمذيعة السابقة، لونا الشبل، دور يوازي نصف دور وزارته، بهياكلها وأطقمها.
لم يكن للمعلم أي بصمة في السياسة الخارجية السورية، لم يطوّر أدواتها وأساليبها أو أنماطها. بقيت على ما تسلمها من فاروق الشرع الذي تسلمها من عبد الحليم خدام. وعبر خمسين عاماً، كانت السياسة الخارجية السورية مزيجا من ارتجالات، أو تقليدا للسياسة الخارجية السوفييتية. لم يجر تأسيس معهد لتدريب الدبلوماسيين، أو مركز دراسات لجعل قرارات السياسة الخارجية ذات طبيعة علمية. أما اختيار الدبلوماسيين فكان في الغالب يعتمد على الوساطة والمحسوبيات. وفي أحيان كثيرة، تلعب المحاصصة المناطقية والطائفية دوراً مهما، وكان المنصب الدبلوماسي إكرامية أو منحة للعوائل والطوائف وأصحاب النفوذ تقدّمه أجهزة المخابرات والقصر الرئاسي.
طالما أبهر وليد المعلم مؤيدي النظام السوري بصفاتٍ وسلوكياتٍ اعتبروها مؤشّرات على وجود دبلوماسي محترف في ثقافته وسلوكه، مثل هدوئه وبرودة أعصابه، غير أن الأحداث كشفت أن الرجل كان بارعاً في الردح، منذ كان مساعداً للوزير فاروق الشرع، وجرى تسليمه ملف العلاقات اللبنانية، في مرحلة تصفية نظام الأسد شخصيات سياسية وقادة رأي عام 2005، ليوازن قدرة الإعلام اللبناني في التشهير والردح. أما سياسة التسويف والإغراق في التفاصيل والتفاوض لأجل التفاوض لتقطيع الوقت، فليست ميزة للمعلم ولا من اختراعه، بل من اختراع مدرسة حافظ الأسد التي تعتبر مزيجاً من ثقافة طائفية سوفييتية مخابراتية ومؤامراتية.
وعلى الرغم من مشواره في الدبلوماسية، نحو خمسين عاماً، لم يصنع وليد المعلم نجاحاً مميزاً. ولمّا قال وسيط عملية السلام الأميركي الأسبق، دينيس روس، عن المعلم يوم نقله حافظ الأسد إلى دمشق، بعد تسع سنوات سفيراً ومفاوضاً مع إسرائيل، إن الوسط الدبلوماسي والسياسي في واشنطن سيفتقد حنكته، تبين أن هذا مديح كان غرضياً، فالمعلم كان مسايراً، بدرجة كبيرة للمفاوضين الإسرائيليين، وكان مبالغاً في تقاريره التي يرسلها إلى النظام عن التقدّم في المفاوضات، ويبدو أنه لم يفهم بشكل كافٍ مقاصد الأسد من المفاوضات مع إسرائيل. غير أن نظام الأسد سيعمد إلى ترقية المعلم إلى مساعد لوزير الخارجية، ليصبح وزيراً للخارجية في 2006، للاستفادة من شبكة علاقاتٍ كوّنها في نيويورك وواشنطن، وقد يستفيد منه في التواصل مع إسرائيل، لمعرفة الخارجية الإسرائيلية به جيداً نتيجة ساعات طويلة قضاها دبلوماسيوها في التفاوض معه.
وعما قيل عن حنكة المعلم وقدراته الدبلوماسية، لم تكن وزارة الخارجية السورية الملعب المناسب الذي تظهر فيه براعة اللاعبين ومقدراتهم، فالسياسات التي يؤديها الأشخاص في هذه الوزارة غالباً ما تكون مرسومةً بمسطرة دقيقة، تحدّد معاييرها وهوامشها جهاتٌ من خارج الوزارة، القصر الرئاسي ولجانه ومستشاروه، ثم أجهزة المخابرات. مثلا، أهم الملفات بالنسبة لنظام الأسد، نصف قرن، العلاقات مع الولايات المتحدة وإيران وتركيا ودول الخليج، وهذه كان يديرها رأس النظام مباشرة. أما ملفات العلاقة مع العراق والأردن ولبنان، فإدارتها موكولة لأجهزة المخابرات، وما عدا ذلك من ملفات كانت تدار بشكل روتيني بسبب ضعف المصالح وقلة العوائد.
بنى وليد المعلم الجزء الأكبر من سمعته بوصفه دبلوماسياً جريئاً، عبر مؤتمراته الصحافية التي كان يحضرها مندوبو صحف النظام وفضائياته، وكانت جرأته تتجلّى، في نعت الثوار إرهابيين، واتهام الخارج بالضلوع في “مؤامرة كونية” ضد نظام الأسد. وكانت نباهته تترجم بقفشاتٍ يطلقها عن مسحه أوروبا من الخريطة، أو دعوته الدول التي تريد الاعتداء على سورية بالتنسيق مع النظام.
عادة، معيار الحكم على رجال الدبلوماسية خدمتهم دولتهم. ووليد المعلم كان خادماً بارعاً لنظام الأسد، شأن أي شبّيح صغير كان يهتف “الأسد أو نحرق البلد”، إذ طالما كرّر المعلم القول إن “رحيل بشار الأسد عن السلطة في سورية مقرون بدخول إبليس الجنة”.
المصدر: العربي الجديد