الفضول المعرفي يكاد يكون سمة عامة تخصّ البشرية إن لم تتجاوزها إلى الطير والوحوش والزواحف، فهو بحسب كثيرين غريزة أساسية كالجنس والجوع، ولا أعتقد أنّ إنساناً سويّاً لا تتملكه الرغبة في المعرفة وفي حيازة المعلومة التي إن لم تمكنه من الإجابة عن أسئلته، وتقدّم الحلول لمشاكله وتساعده في تلبية احتياجاته اليومية، فهي على الأقلّ تشبع فضوله وتمنحه شعوراً بالرضى والامتلاء.
ثمّة من ينفر من مواجهة حقيقته ويتجنّب الضوء المسلط على ما تبقّى فيه من ملامح الإنسان، يلتحف ظلّه الباهت ويمضي كخلدٍ مذعور إلى قوقعته في سراديب معتمة لا نهاية لكمائنها، ولا لاحتمالات الفجيعة التي تختفي تحت رماد سميك من الإنكار والتجاهل ما يزال ساخناً، لعلّها الخشية من مكاشفة مع الذات المسحوقة بحجر الماضي المسكون بالذعر، أو ربما تخلّصاً من الشعور بالمسؤولية، والهروب من عبئ استحقاق المعرفة، وبما يمكن أن تستجلب من مشاقّ.
إنها الطبيعة الإنسانية للبعض، المشوّهة بفعل الخوف، المنطوية على الكسل والبخل، والتي يدفعها الشعور بالعجز ورغبتها بالغنيمة إلى تبني المواقف المائعة، دون أدنى مراعاة للمبادئ والقيم، أو لبذل مجهود عقلي يذكر.
في الواقع المأساوي الذي يرزح تحت وطأته الإنسان السوريّ في مناطق سيطرة المحتلّ الأسديّ بخاصّة، تبرز العديد من المفارقات والظواهر المؤلمة التي لم تفلح العلوم بكل تجلّياتها الحديثة الإنسانية والطبيعية في معالجتها، كما أنّ محاولة تفسيرها تبدو أشبه بالدخول في متاهة مستحيلة على الخروج والحلّ، لعلّ أهمّ هذه الظواهر المدهشة هي في سيادة عارض مرضيّ يبدو كما لو أنّه الزهد بالمعرفة، يتمثّل بالإنكار وبرفض الحصول على المعلومة والانصراف عن مصادرها، إن لم نقل الإبلاغ عنها وكتابة التقارير الواشية بأصحابها.
ربما يبدو السكوت عن الجرائم مبرّراً إلى حين في ممالك الجحيم المرعبة لمن لم تنله بشكلٍ شخصيّ جنايات أنظمة المجازر ولم تدمّر داره، أو يُقتل أبناؤه او أقرباؤه أو يُخطفوا ويعتقلوا ويعذّبوا ويغتصبوا، لكن أن يتعرّض أشخاص لكلّ هذه الفظائع أو بعضها على الأقل ويلازمه خرس شيطانيّ مريب فهذا ما لا تستطيع معادلات الفيزياء والكيمياء ولا علوم الأرض والسماء أن تفسّره وتعلّله، أو أن تفترض حتى إمكانيّة حدوثه.
ليس زهداً في المعرفة أن يرفض الضحايا ومشاريع الضحايا مجرّد العلم بحقيقة ما حدث ويحدث لهم وبتفاصيله، أن يتهرّبوا من التعرف على حقيقة المجرم وطبيعته المتوحشة والأسباب المخزية لجرائمه، ومن التماس وسائل الخلاص من متوالية الموت المجانيّ المهين، ليس تعالياً أن يبتعدوا عن الإصغاء إلى مجاهيل مأساتهم وإلى حكاية قهرهم وعذاباتهم، وإلى ما ينتظرهم ويتربّص بهم، وأن ينشغلوا باستجداء الخبز الأسود في طوابير لا نهاية لامتدادها، وأن يصلبوا أعمارهم وكرامتهم المهترئة ضمن أقفاص لا تصلح حتى للقرود والخنازير المدجّنة، أن يعجزوا عن تأمين وقود التدفئة والماء النظيف والحليب لأطفالهم العراة، وبالتأكيد ليس سموّاً أن يستكينوا ويستمرؤوا الغوص في مستنقع الإهانة والإذلال دون أمل في الخلاص، وبلا أيّة دالّة على الاستنكار والتمرّد.
لقد سقط هؤلاء المساكين في وحل تصوّراتهم النتنة، حين أنكروا الحقيقة واستبعدوا العقل، فسلموا لمقصلة الطاغية رقابهم الخانعة، وكانوا أدوات رخيصة للنظام المجرم في تنفيذ جرائمه. لا يمكن وصف سلوكهم على أنّه نتيجة للكسل المعرفي والزهد، بل هو عطب في مرجل القيم وإعاقة في الضمير دائمة ومستعصية، كما أنّ الذعر من المستبدّ ليس وحده دافعهم للتخاذل والجبن، إنما الخوف من عريهم الأخلاقي ومن مواجهة أسئلة المستقبل، والمخيّلة المريضة التي ترى في الجديد عدوّاً مستتراً هي أسباب جوهريّة لإقالتهم العقل وتلطّيهم خلف أقنعة الدروشة والجهل.
المصدر: اشراق