على هامش أحاديث السياسة اللبنانية المضجرة، عن عودة سعد الحريري المخيبة الى رئاسة الحكومة، وفرص دخوله المظفر الى السراي مجدداً، تدور نقاشات مغلقة حول مستقبل مفاوضات ترسيم الحدود البحرية والبرية مع العدو الاسرائيلي، التي تستأنف يوم الاربعاء، خلاصتها الإقرار الضمني بان الاميركيين والاسرائيليين يخضعون لبنان الآن لفحوص وصور مخبرية لمعرفة مدى “أهليته” لتطوير تلك المفاوضات ونقلها من الحيز التقني الى المجال السياسي.
ويبدو ان تلك الإختبارات الاميركية والاسرائيلية جدية أكثر مما كان يعتقد، بل يعتقد انها هي الهدف الفعلي لقبول الجانبين بالجلوس مع الوفد اللبناني الى طاولة مفاوضات الترسيم، التي لن تظل ، حسب آخر التقديرات اللبنانية، مفتوحة أكثر من بضعة أسابيع، وتحديداً حتى نهاية العام الحالي، حيث سيعمد الاميركيون والاسرائيليون الى قلب طاولة التفاوض في الناقورة والعودة الى ما كانت عليه قواعد اللعبة (الاشتباك) مع لبنان.
في هذا السياق، لن يكون من المستبعد ان يبادر الوفد اللبناني نفسه، عندما يشعر أنه يتعرض للاختبار أو الخداع، الى مغادرة قاعة التفاوض، وعدم العودة إليها، وهو أحد الخيارات المتاحة لأعضاء الوفد، والتي كانت واردة منذ إعلان الرئيس نبيه بري عن إتفاق الاطار التفاوضي مطلع هذا الشهر.. وصارت مرجحة عندما لوحظ إلحاح الاميركيين والاسرائيليين على تحديد موعد سريع لجلسة الافتتاح، في 14 تشرين الاول/اكتوبر الحالي، وموعد جلسة العمل الاولى الاربعاء في 28 من هذا الشهر.
إذاً، المهلة الزمنية المفترضة للمفاوضات التجريبية لا تزيد عن سبعة الى ثمانية أسابيع قبل نهاية العام، تجرى فيها خمس او ست جلسات عمل، لن يوقف فيها الاميركيون مسار العقوبات المتصاعد هذه الايام على حزب الله وقيادييه، ولن يؤجل الاسرائيليون مناوراتهم العسكرية الحدودية (التي إنطلقت الاحد وتستمر حتى الخميس) ولا عملياتهم الاستطلاعية المكثفة داخل الاجواء والاراضي اللبنانية..
الهدف البعيد للمفاوضات الحدودية، كان وسيبقى هو إستكشاف فرص التوصل الى معاهدة سلام، لم يجاهر أي من كبار المسؤولين الاميركيين والاسرائيليين بالرغبة بها الآن، لكنها فكرة تدرس في كل من واشنطن والقدس المحتلة، إن لم يكن من أجل تحقيقها في المستقبل القريب، فعلى الإقل إستخدامها سلاحاً لتفجير الوضع الداخلي في لبنان، يضاف الى الاسلحة الاقتصادية والمالية التي إستخدمت وأسهمت الى حد ما في الانهيار اللبناني خلال السنوات الثلاث الماضية.
في هذا السياق تبدو التجربة السودانية الاخيرة نموذجية. الفتح الاميركي الاسرائيلي للسودان هو إختراق خطير للوضع العربي وإنتهاك لموقع القضية الفلسطينية داخله.. لكنه أيضا يعبر عن إستخفاف أو حتى إزدراء من جانب واشنطن وتل ابيب بإستقرار السودان وأمنه ووحدة أراضيه، وبمستقبل الحكم الانتقالي الحالي، الذي لن يقوى الاميركيون والاسرائيليون على حمايته، عندما سيواجه تهديدات داخلية سواء من المركز وما يحتويه من أحزاب وتيارات ونقابات وهيئات سياسية ودينية مناهضة للتطبيع، او من الاقاليم التي تنتظر الفرصة للانقضاض على ما تبقى من مركزية السلطة ومن الوحدة الجغرافية السودانية.
الإجتياح الاميركي الاسرائيلي الراهن للسودان الذي يمر بمرحلة إنتقالية صعبة ومعقدة، لا ينم سوى عن رغبة في إضافة سبب جديد للانفجار الداخلي السوداني. لا يمكن لترامب ولا لنتنياهو ان يزعما على سبيل المثال أنهما في صدد إقامة تحالف عسكري وإستخباراتي وأمني، وإقتصادي طبعا، يشبه ذلك الذي توصلا اليه مع دولة الامارات مثلا. الاقرب الى الواقع هو أنهما زرعا عبوة ناسفة داخل السودان، يمكن ان تؤدي الى تفتيته.
مثل هذا التحذير الصريح من إحتمال تفتت السودان، لم يصدر عن مركز قرار أو رأي عربي، بل كتبه الشهر الماضي دبلوماسيان أميركيان سابقان هما جيفري فيلتمان (المعروف جيدا من جميع اللبنانيين) وبايتون كنوف، في مقال نشر في معهد السلام الاميركي ومعهد بروكينغز الشهر الماضي.
ربما لم يحن الوقت لكي يوجه فيلتمان وزميله كنوف، مثل هذا التحذير من تفتت لبنان، لكن الفتح الاميركي والاسرائيلي للسودان في هذه المرحلة الحرجة، يدل بلا شك على نمط سلوك لدى ترامب ونتنياهو، يستبعد تماماً الإهتمام بإستقرار أي دولة عربية يغزوانها أو بإستمرار أي نظام عربي يتواطآن معه.
لن يكون لبنان إستثناء. وقد يكون السودان شاهداً على الخطر المتسرب من نفق مفاوضات ترسيم الحدود.
المصدر: المدن