لم يتردد الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال الأشهر الأخيرة في ترداد مقولة إن النظام الإيراني سيأتي إلى المفاوضات بعد الانتهاء من الانتخابات الرئاسية وعودته إلى البيت الأبيض. وذهب به التفاؤل إلى حد إعلان استعداده للدخول في هذه المفاوضات حتى من دون انتظار النتائج. في المقابل، لم تتردد إيران في رفع مستوى العداء مع الإدارة الأميركية، والتأكيد على استحالة التفاوض مع الرئيس الذي أعلن صراحة مسؤوليته عن قتل “درة” المؤسسة العسكرية وذراع إيران الإقليمية، قائد قوة القدس في حرس الثورة الجنرال قاسم سليماني، واضعة مسألة التفاوض مع ترمب في مصاب المسائل الأخلاقية والعقائدية والكرامة الوطنية.
رغبة ترمب بفتح قناة تفاوضية مع إيران مع تمسك طهران بالرفض، تعكس سعي الأول إلى تحقيق هذا الإنجاز ولو في الساعات الأخيرة من رئاسته، وإن لم يستطع توظيفه في صناديق الاقتراع.
أن يجر النظام الإيراني إلى طاولة المفاوضات من دون تقديم أي تنازل في موضوع العقوبات التي أعاد فرضها ووسع مروحتها، وحولها إلى أداة تضغط على عنق النظام وتهدد استقراره وبقاءه، في حين أن النظام الإيراني لا يريد أن يتحول إلى ورقة مباشرة في المعركة الانتخابية بين ترمب وخصمه الديمقراطي جو بايدن، وترك أي قرار بالتفاوض إلى ما بعد النتائج الانتخابية، وبالتالي تأجيل أي مسار تراجعي، وإبعاد كأس التنازلات ما أمكنه، من دون التخلي عن السعي إلى فتح قنوات تخفف عنه عبء وتداعيات العقوبات في حال عاد ترمب إلى البيت الأبيض، إن كان بالاتجاه نحو الصين والبدء بتطبيق الاتفاق الاقتصادي الاستراتيجي بينهما، أو في تعزيز علاقاته الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية والاستراتيجية مع روسيا.
المنحى التصعيدي والتصاعدي الذي أخذته العلاقة المتوترة بين طهران وواشنطن يجعل إمكان عودة كل منهما إلى الاتفاق النووي أمراً صعباً، بخاصة أن الطرفين يتمسكان بالإطار العام لهذا الاتفاق. لكن واشنطن ترى ضرورة في إدخال تعديلات جوهرية عليه تطال كثيراً من المسائل والقضايا التي سكت عنها هذا الاتفاق في نسخته الأوبامية. أما طهران فقد تكون مجبرة على تقديم تنازلات جديدة لا تقف عند حدود البرنامج النووي، الأمر الذي ينسف كل الاستراتيجية التي دخلت على أساسها في مسار التفاوض والحوار مع الإدارة الأميركية، بما في ذلك من كسر لمحرمات “في الظاهر”، ترسخت على مدى أربعة عقود نتيجة العلاقة المتوترة بينهما.
الرهان الإيراني على انتصار المرشح الديمقراطي جو بايدن لن يكون رهاناً سهلاً بالرغم من إعلان الأخير استعداده لإعادة بحث موضوع عودة واشنطن إلى الاتفاق سريعاً، شرط أن تعود طهران إلى تنفيذ كامل تعهداتها التي التزمت بها في الاتفاق، وهي خطوات من وجهة نظر بايدن تستدعي فتح باب حوار مباشر بين الطرفين، الأمر الذي رأت فيه طهران إمكان أن يلجأ بايدن إلى توسيع دائرة التفاوض لتشمل مواضيع لم تكن محل بحث في الاتفاق الأول، ما يعني وجود نية أميركية لاتخاذ مواقف أكثر تشدداً من البرنامج النووي، وهو ما استشفته القيادة الإيرانية المعنية بموضوع العلاقة مع واشنطن من كلام بايدن قبل نحو شهر، عندما أشار في معرض انتقاده لقرار ترمب الانسحاب من الاتفاق إلى أن “العودة الأميركية إلى الاتفاق يمكن أن تشكل نقطة انطلاقة لدبلوماسية أوسع وأشمل بين طهران وواشنطن”.
فوز بايدن بالانتخابات وإعلان طهران استعدادها التفاوض معه لن يساعدا في تجاوز العقد والعراقيل التي زرعها ترمب في هذه الطريق، فالآليات التي قامت عليها العقوبات الجديدة معقدة بدرجة كبيرة، ولن يكون سهلاً على بايدن اختراقها بسهولة أو كسر البنى التي قامت عليها، وقد وصلت حدة هذه العقوبات إلى مستوى أن أي إجراء جديد يلجأ إليه ترمب وإدارته قبل الانتخابات بناء على القرار التنفيذي رقم (13902) لن يكون له أي أثر إضافي على الاقتصاد الإيراني، الذي بات محاصراً من جميع الجهات.
وإذا كانت قيادة النظام الإيراني تملك القرار الاستراتيجي الأعلى دستورياً وقانونياً ودينياً وأيديولوجياً لتسويغ التحول نحو التفاوض مع الإدارة الأميركية في حال هزيمة ترمب، فإن الأمور لن تكون ميسرة أمام بايدن، لأنه سيصطدم بعقبة الجمهوريين في الكونغرس الذين سيقاومون أي رغبة في تمرير قوانين تسمح للديمقراطيين بالتوصل إلى اتفاق سريع مع إيران، وهو تشدد لا يقتصر على الجانب الأميركي، بل لديه أصداء داخل إيران من خلال المواقف التصعيدية التي قد يلجأ إليها البرلمان الإيراني، الذي تحول إلى مجلس يتفرد المحافظون بإدارته، وينفذ من دون تردد السياسات التي تتبناها قيادة النظام العليا. وسبق للنظام أن عرقل من طريق المؤسسات التي يسيطر عليها، كما البرلمان أو صيانة الدستور أو مجمع تشخيص مصلحة النظام، آلية انضمام إيران رسمياً إلى معاهدة باليرمو ومجموعة العمل المالي (FATF)، بعدما عمدت الحكومة إلى تطبيقها طوعياً وكإبداء لحسن النية بعد توقيع الاتفاق النووي، إلا أن تعليق إقرارها رسمياً جاء بعد قرار ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي. وهذا الأمر يشكل عائقاً أساسياً أمام أي مساع لبايدن إلى رفع العقوبات المفروضة ضد النظام الإيراني. لذلك، فإن أي اتفاق بين واشنطن وطهران لن يكون ممكناً بسهولة، وفي حال حصل فإنه لن يكون ممكناً على الأقل في السنة الأولى لرئاسة بايدن، نظراً لتشعب المواضيع، وسيكون محصوراً في بعض الجوانب التي تتعلق بالعقوبات التي فرضت على نقل اليورانيوم المخصب، وتعليق إيران أنشطة توسيع عمليات تطوير أجهزة الطرد المركزين وزيادة أعدادها، والعودة إلى سياسة الإعفاءات في بيع النفط والعقوبات على المواد الإنسانية، وتفعيل آلية التعامل المالي “انستكس”.
من المفترض أن تنتهي مفاعيل الاتفاق النووي بين عامي 2023 و2025، أو ما اصطلح على تسميته “غياب الاتفاق” أو غروبه، ما يعني أن أية مفاوضات أميركية لن تدخل في جدل حول إعادة تفعيل ما تم التفاهم عليه في الاتفاق الموقع عام 2015، بل من المفترض أن تتوسع دائرتها لتشمل مواضيع لم يتم التطرق لها سابقاً، وهذا يعني أن إيران ستواجه مرحلة جديدة من التشدد الأميركي قد تكون أصعب من مرحلة التفاوض حول الاتفاق النووي، وقد يكون من الصعب عليها تخطي هذه المرحلة ما لم تعمد مسبقاً إلى حسم الجدل الداخلي بين أقطاب النظام، وأن يأخذ المرشد الأعلى مبادرة واضحة وصريحة برفع “الحرم” على فتح علاقات وحوارات مباشرة مع واشنطن تؤسس لمرحلة من العلاقة الطبيعية بين البلدين، التي قد تساعد في قطع الطريق على مزيد من التوتر بينهما، خصوصاً أن على طهران تجاوز عقدة العقوبات التي سبق أن فرضها الرئيس ترمب، وأسهمت في تعقيد مسار بناء الثقة بين الطرفين.
لا شك أن النظام الإيراني في حال قرر الدخول في مسار تفاوضي مع الإدارة الأميركية، بغض النظر عن الرئيس الذي سيجلس في البيت الأبيض، بايدن أم ترمب، سيضع شروطاً أساسية لا يمكنه التراجع عنها، كما التمسك بحق إيران بتخصيب اليورانيوم على أراضيها، ورفع حجم الكمية من مخزون اليورانيوم المخصب وزيادة عدد أجهزة الطرد المركزي، ورفع أي تمديد لأي من بنود الاتفاق النووي بعد انتهاء مدتها، كما حصل عند انتهاء حظر التجارة بالأسلحة التقليدية في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2020. أي استخدام الملف النووي كورقة تفاوض قوية على الطاولة مع واشنطن.
فهل ستكون طهران قادرة على تقديم تنازلات قاسية في البرنامج النووي، في مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها؟ وماذا لو تمسكت الإدارة الأميركية الجمهورية أو الديمقراطية بطرح ملفي البرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي لإيران؟ فهل ستكون قادرة على تقديم تنازلات في هذين الملفين اللذين تعتبرهما من أبرز مقومات سياستها الدفاعية واستراتيجيتها الإقليمية؟ أم أنها ستضحي بمكتسبات نووية في مقابل التمسك بهذين الملفين بعيداً من طاولة التفاوض؟
المصدر: اندبندنت عربية