حصل ذلك ما قبل الطوفان الذي أخذ عائلة حنا واهل قريته في حوش حنا. والتي لم يبقى منها الا مريانا التي قررت التفرغ لخدمة حنا حيث يكون، وشاها زوجة زكريا التي اختلّت نفسيا بمصاب الطوفان وموت ابنها وهو في حضنها. كان للطوفان دور كبير في تحولات أفكار وسلوكيات ونفسية حنا وزكريا. غادرا حياة المجون والمتع وأصبح حنا أقرب لحياة الرهبنة والزهد والتنكر لكل ملذات الحياة. الثابت الوحيد داخل نفسه كان حب سعاد. عاش حياة التنقل المستمر لبس ثوب التزهد المتواضع، حمل مخلاته على ظهره وساح بصحبة صديقه زكريا وتابعته مريانا، أخذ ينتقل من بلد الى بلد سيرا على الأقدام. يبحث عن ذاته. يعيش تساؤلات وجودية متنوعة، الحياة والموت والجدوى من الوجود. كان قليل الكلام، يتبادله فقط مع زكريا. كانت مريانا تتابعه في تنقلاته. بدأت تنسج حوله الحكايا حيث يصل، صانعة منه قديسا وصاحب كرامات. وصل الى دمشق مارا بكثير من الاديرة والتقى بالراهب ابراهيم الذي كان متعمقا في المسيحية ومعتكفا على نسخ الكتب والمخطوطات التاريخية. تفهّم ما عاشه حنا وتضامن معه وأصبح صديقه، كان حنا يهرب من نفسه، لم يكن يوما مؤمنا بالشكل الذي صورته عليه ماريانا كما انه لم يستسغ أن يصبح قديسا وصاحب كرامات. كان يرتاح ان يواجه نفسه التي اوغلت بالملذات، وعندما وجد أهل قريته غرقى وميتين بما فيهم زوجته وابنه، اكتشف تفاهة الحياة. كان يعاقب نفسه بسياحته وتقشفه وإجهاد جسده. لم يكن يفكر بماريانا وخطتها ليصبح قديسا. كان لا يتحدث بعمق ويوضح ما يعيشه الا مع زكريا صديقه الذي يلازمه كل الوقت. لكن حكايا مريانا هي التي انتصرت، أصبح هناك من يتتبع حكاية حنا وتزهده وقدسيته. بدأ المرضى والمجذومين يتوافدون عليه حيث يكون وطارت حكايته في الآفاق كقديس يشفي المرضى. وتحولت مريانا مع الوقت من تابعة لحنا الى مديرة شؤونه وتقود خطاه ليصبح قديسا. سواء بالحج الى القدس وبيت لحم او بظهور كرامات على يديه او حتى وفاته. لم يكن حنا يهتم لذلك. كان هاجسه ما يعيش داخل نفسه الغير مستقرة والممتلئة أسئلة تحتاج لأجوبة. طالت جولته اغلب مدن بلاد الشام، عاد الى حوش حنا والى قلعته التي كان بناها مع صديقه زكريا وأصدقائه الآخرين لتكون مكانا للمتعة والموبقات من قمار واستدعاء نساء الدعارة والمبيت معهم لأيام ومن ثم مغادرتهم. لقد عاد شبه قديس منعزل عن الدنيا وحوائجها. كان زكريا يدير شؤون أملاكه، وماريانا حولت قلعته الى شبه دير ديني تفرض قواعدها الصارمة. اصبحت نساء الدعارة مع الزمن وكبرهن في العمر مشاريع تائبات وبعضهن قررن أن يكنّ راهبات. استمرت الحياة على ذات المنوال من حيث تحول حنا لمزيد من العزلة، ومزيد من تسلط ماريانا على القلعة وتسيير أمورها. كما تجاوزت شاها زوجة زكريا أزمتها النفسية، عادت وأعطت جسدها لزكريا زوجها، وحملت بتوءم، انجبتهم لكنها توفيت أثناء الولادة. كانا طفل وطفلة. اعتبرهما حنا أولاده. سمّاهم وليم وعائشة على اسم صديقهم وحبيبته المقتولان. كان لوجود وليم وعائشة في حياة حنا وزكريا وماريانا نفحة حياة جميلة جديدة. ماريانا احبت وليم كثيرا واعتبرته ابنها الذي لم تلده. نشأ وليم وعائشة في أجواء من الحب والاهتمام والحنان. كانوا الأمل والسعادة في حياة زكريا وحنا بعد الشقاء والتعب الذي عاشوه منذ الطوفان.
كانت الدنيا كلها على موعد مع أجواء الحرب العالمية الاولى عام ١٩١٥م. التي اندلعت وكانت السلطنة العثمانية أحد اطرافها، اقترنت بسحب كل الشباب الى الحرب المسماة السفر برلك. في الجبهات كلها، اقترن ذلك مع أخذ المؤن والأرزاق من بيوت وخزائن كل الناس. بحيث اصبحت سنوات الحرب سنوات مجاعة وفقر ومرض وجوع وفاقة. لم يسلم حنا وزكريا وديرهم بإدارة ماريانا من تبعات المجاعة، استطاعوا أن يخبئوا بعض المؤن وان يعيشوا على الكفاف، لكن اغلب الناس ماتوا ضحية الجوع ونقص المواد الغذائية، وزاد من معاناة الناس حولهم، قتل العثمانيين بعض الأرمن الذين اتهموهم بالتحالف مع اعدائهم. وصلت بعض الفتيات الأرمن الناجيات الى الدير حيث رعاهم حنا وزكريا وماريانا، أصبحوا بمثابة بناتهم. تربوا مع اولاد زكريا وليم وعائشة.
سقطت السلطنة العثمانية، وجاء المستعمر الفرنسي الذي أصبح الحاكم الفعلي للبلاد ولم يتغير واقع الحياة اليومية على أهل الدير، سوى ذكرى المجاعة والموت والمأساة التي عاشها أغلب الناس. كان حنا قد زاد انعزاله وتنسكه، وزاد حصار ماريانا له، التي تسلطت أكثر، تريده ان يصبح قديسا. استمر حنا وزكريا مرتبطين مع وليم وعائشة اولادهم، يكبران امامهما وبينهما.
أما سعاد اخت زكريا وحبيبة حنا فقد وجدت ان قطار العمر يفوتها وان حنا لن يغامر بالزواج منها سواء بسبب اختلاف الدين أو للجرأة على تجاوز احساسه بالخواء الروحي والنفسي. تزوجت أحد التجار وأنجبت منه ولدا وبنتا. وعاشت ازدواجية في ذاتها، حياة تعيشها مع زوجها واولادها، وحياة تعيشها داخلها مع حنا حبيبها. جاء الطاعون مع مجاعة الحرب الاولى ومات زوجها، وبقيت متفرغة لأولادها ولأخيها واولاده الذين أخذوا من اهتمامها الكثير. كانت سعاد قد قررت أن تستفيد من أجواء التحرر المقترنة مع حضور الفرنسيين. فتحت محل خياطة وصنعت الأزياء وأقامت معرضا للأزياء في حلب على الطريقة الاوربية، لكن عمتها المتدينة والتي أصبحت شيخة كبيرة ولها مريدين، رفضت تطورات ابنة اخيها، ورفضت تخليها عن حجابها او فتح معرضها. وبعثت من مريديها المتدينين من أحرق حفل عرض الازياء، حُرق المكان وأصيبت بعض العارضات بحروق طفيفة. استمرت سعاد على تحررها. لم تشارك بجنازة عمتها. وبقيت تعيش حياتها كنموذج للمرأة التي تريد أن تأخذ حقها ودورها مثل الرجل تماما وكان ذلك غريبا وجديدا على حلب في أربعينيات القرن العشرين. في ذات الوقت كبر أولاد زكريا وليم وعائشة في حضانة حنا وزكريا ومريانا وسعاد، كبروا وبدؤوا يعيدون حكاية اهلهم، كبر داخلهم الحب والشوق لعيش الحياة بكل ابعادها وتفاصيلها. عائشة احبت يوسف احد الشباب الاكراد الذين ثاروا على العثمانيين وكان التحق بمجموعة شركو التي هاجمت العثمانيين في أواخر حكمهم. وبعد ذلك جاء للعمل مع حنا وزكريا، وتعرف على عائشة التي بدأت تنضج. احبا بعضهما وسرعان ماتزوجا برعاية حنا وزكريا. لكن عائشة ستشكل غصة جديدة في حياة حنا وزكريا ويوسف زوجها ستموت باكرا وتترك وراءها فراغا وحزنا كبيرا. اما وليم الابن فقد تولع منذ صغره بالرسم وبعد ذلك بالتصوير، ومن ثم فتح مركزا للتصوير وكان تصويره أقرب إلى لوحات فنية. كما كان قد احب مريم احدى الفتيات الارمن الناجيات من الموت من اللواتي لجأنّ للدير وتربوا به. احبها واحبته لكنه بقي طول الوقت بعيدا عنها. يخاف أن يمارس الجنس معها، كي لا تلفظها نفسه، كما يحصل مع كل النساء اللواتي تأتين للتصوير عنده. حيث يعشن تجربة جنسية ممتعة ومختلفة معه. و زادت شهرته أن صديقه سام الذي تعرف عليه، أخذ ينسج عنه القصص وينشرها في المدينة. كانت تأتي مريم اليه تباعا كل شهر ليصورها. كانت تقتات على هذه الزيارة لتذهب الى متابعة حياتها. حيث تزوجت من شاب تركي اسمه اورهان، كان بينهما وزوجها حاجز نفسي وهو حبها العميق لوليم. أما وليم فقد كان يمارس الجنس مع كثير من النساء، باحثا بهنّ عن مريم التي حاولت ان تعطيه جسدها أكثر من مرة وكان لا يتجاوب معها. لم تكن تمارس الجنس مع زوجها إلا بشكل متباعد انجبت منه ابن وابنة، وبعدها تباعد الجنس بينهما. أصبحت تستعيض عن غياب وليم بإحضاره عبر الخيالات الجنسية الليلية. توفي اورهان وعاد اولادها الى عائلة والدهم في اسطنبول. وبقيت هي في حلب تعيش حبها لوليم على طريقته وطريقتها.
وهكذا مضت الحياة على الجميع. غادر الفرنسيين سورية واصبح هناك حكم وطني. كبر حنا في العمر كثيرا وكذلك زكريا الذي اصيب بمعرض تقيح متجدد في جسده دوما. انه الجدري. كان يعالجه زكريا بشكل دائم دون خوف من العدوى، لم يعد يحضر اليهم الا ماريانا وعائشة قبل الموت ووليم احيانا. كانت حلب قد بدأت تستقبل العهد الوطني بمجيء شكري القوتلي إليها عام ١٩٥١م كأب للاستقلال السوري. وكانت دولة اسرائيل قد اعلنت على جزء من أرض فلسطين. وكان الكثير من أصدقاء حنا وزكريا من يهود حلب قد عاشوا الصراع داخل انفسهم بين الارتباط العميق بمدنهم وانهم أبناءها ولن يغادروها، مثال ذلك عازار صديق حنا وزكريا. مات مغموما ودفن في حلب، أما زوجته فقد أخذت ابناءه الى امريكا ومن هناك الى دولة اسرائيل. أصبح اليهود ضحية اغراءات الوكالة الصهيونية العالمية التي تشجع يهود العالم للانتقال الى اسرائيل على انها دولة لليهود. ساعد على ذلك سياسات الدول العربية التي رحلت الكثير من اليهود الى الدولة الصهيونية الوليدة عن وعي او غباء او بالاتفاق مع الدول العظمى آنذاك.
تنتهي الرواية عندما يلتقي حنا بسعاد ويترك لها رسالة يتكلم بها عن نفسه وحبه، يعترف لها بكل مكنونات نفسه. وترد عليه برسالة تؤكد ذات المشاعر، والاثنان يندمان أنهما ضحوا بحبهم ولم يعطونه فرصة الحياة. بعد ذلك يقرر حنا ان يعود وصديقه زكريا الى حوش حنا حيث القرية الغريقة وقبورها المنسية ومنزله المنعزل هناك. غادر الى هناك صديقه على محفة وقد اشتد عليه المرض. وهو سيرا على الأقدام. ليصل إلى القرية الغريقة وقبورها المتناثرة. يضع صديقه في غرفته. ويذهب باتجاه النهر يتقدم اتجاهه رويدا رويدا يخوض به إلى أن يبتلعه. سرعان ما تصل الأخبار إلى كل من تابع قصة حنا القديس الذي ينتظر التعميد بما فيهم ماريانا التي اصيبت بشبه عمى وتنتظر موتها. تداعوا يبحثون عن حنا الغريق. لكنهم لم يعثروا عليه لقد توحد مع صديقه النهر ولم يعد ابدا.
هنا تنتهي الرواية.
في تحليلها نقول:
٠ بداية مهما تحدثنا عن الرواية فلن نستطيع ان نوفيها حقها في هذه العجالة، سواء على المستوى التاريخي، أو الاجتماعي، او واقع الزمان والمكان في تلك الحقبة المهمة من تاريخنا. حلب وما حولها. الرواية تحتاج لدراسة مفصلة بعشرات الصفحات لكي تستطيع أن تحيط بابعادها كاملة.
٠ الرواية تنتصر اخيرا للإنسان في جميع أشكال حضوره في الحياة. هذا الإنسان الفرد المتعايش مع ذاته و غرائزه ورغباته وطموحاته، وعواطفه ونزواته، في ظروفه المعينة بشروطها الحياتية، هذا الإنسان هو الوجود الحق الذي يجب أن يُعرف ويُحترم ويُدرك لتدرك من خلاله حركة التاريخ العامة. الرواية موغلة في الخصوصية الذاتية لكل أبعاد شخوصها عبر تفاصيل تعيد اصطناع حياة و تخلقها من جديد. هنا قوة الرواية.
٠ لا تقف الرواية عند المتغيرات التاريخية على ابطالها وما عاشوا الا بما انعكس عليهم. العثمانيون هم الحكام الذين يمثلون السلطة الباطشة مثلها مثل الفرنسيين، وبالحالتين هم غريبين و هامشيين في صلب الحياة التي يعيشها الجميع. الناس يتطوروا بالحياة، المرأة التي تريد أن تصبح ندا للرجل تتعلم وتعمل وتتحرر. هذا قانون تاريخي نراه يُعاش وان تواجد من يقف ضدّه لكن لم ينجح.
٠ الرواية تقول أن صلب وجود الإنسان نوازعه عواطفه ومجموع طموحاته الشخصية ضمن شروطه الحياتية. الحب في الرواية أقرب للمستحيل. تحققه يميته، الصعوبات في وجهه تحوله الى اسطورة تمتد مع المحبين في حياتهم وما بعدها. هناك تناقض صميمي بين الحب والغريزة الجنسية في الرواية، رغم أن إشباع الحب اخيرا يكون جنسيا. لكن المحبين هنا يخافون أن يميت الجنس المعاش مع الحبيب الحب الذي يريدونه خالدا. هناك احجية، البحث عن الحبيب بالاحلام او بالنساء الاخريات. والهروب من الالتحام به… أو هكذا حصل بالرواية. الحب هنا رمز لمطلب مستحيل التحقق. وحتى عندما صارح المحبين حنا وسعاد بعضهما، كان عبر رسائل و بعد ان وصلا الى سن السبعين، كان ذلك خاتمة حكاية كانت يجب أن تُعاش بغير هذا الشكل ومن باب تخليص الضمير من حمولات التأنيب. لسان حالهم يقول: اننا اضعنا عمرنا وحبنا هباء.
أخيرا: الرواية تحتاج أن تقرأ وأن يعوم فيها القارئ، يغوص في أعماقها. يعيشها، يتشبّع بها. تتوالد داخله مشاعر ومعلومات، وحكايا وتاريخ، هواجس وهموم ووقائع تجعلنا نعيش ذلك الزمان والمكان وتلك المرحلة بكل تفاصيلها.