العقل السياسي السوري بين إرث الدولة الأمنية واستحقاقات الوعي المدني

حمدان العكله

يمثل سقوط النظام في سوريا نقطة تحول تاريخية لا تقتصر على الجغرافيا السياسية، إنَّما تمتد لتشمل البنية الذهنية العميقة للمجتمع السوري، فبعد عقود من هيمنة الحكم الأمني الشمولي يجد العقل السياسي السوري نفسه في طور انتقال جذري، يتحرّر فيه من قيود الخوف والطاعة ليدخل معترك بناء الوعي المدني.
هذا التحول هو المحدِّد الأهم لمستقبل سوريا، وهو التحدي الأكبر الذي يواجه السوريين اليوم، ويأتي بعد إرث ثقيل من هيمنة الأمن الشمولي، فقد رسّخ النظام السابق بنية ذهنية أساسها غياب السياسة وهيمنة الأمن.
لم يكن حراك عام 2011 مجرد مطالبة عابرة بالخبز أو الحرية، بل كان زلزالاً معرفياً يمثل الشرارة الأولى التي تحدت البنية الذهنية الراسخة للنظام، لقد كان لحظة انفجار الوعي، حين خرج السوريون للمطالبة بالحرية..
كان الأفراد السوريون يعيشون في ظل نظام عرف حالتي الشمولية والدكتاتورية معاً، فقد تحوّلت الدولة إلى جهاز أمني ضخم يهدف إلى السيطرة المطلقة على الفرد والمجتمع، وقامت هذه البنية الذهنية القديمة على ثلاثة محددات رئيسة:
أولها، ثقافة الخوف والصمت، حيث كان التعبير السياسي مرادفاً للخطر، مما أدى إلى تراجع المشاركة العامة والاعتياد على الصمت السياسي.
ثانيها، تغييب الوعي المدني، إذ تم استبدال مفهوم المواطنة الفاعلة بمفهوم الرعية الخاضعة، وغابت مؤسسات المجتمع المدني المستقلة أو تم تسييسها بالكامل.
أما المحدد الثالث، فكان ترسيخ الانقسام، حيث عمل النظام ببراعة على ترسيخ هويات طائفية وعرقية ضيقة، وتعزيز الانقسامات بين الجماعات المختلفة لضمان بقائه، فكانت النتيجة هي عقل سياسي اعتاد على السلطة كأمر واقع، لا يرى في السياسة سوى مجالاً محظوراً أو حكراً على النخبة الحاكمة.
أولاً- الوعي السياسي في طور الانتقال:
لم يكن حراك عام 2011 مجرد مطالبة عابرة بالخبز أو الحرية، بل كان زلزالاً معرفياً يمثل الشرارة الأولى التي تحدت البنية الذهنية الراسخة للنظام، لقد كان لحظة انفجار الوعي، حين خرج السوريون للمطالبة بالحرية، ليحطموا بذلك حاجز الخوف الذي بناه النظام لعقود، وليحولوا مفهومهم لذواتهم من رعايا صامتين إلى مواطنين فاعلين.
ومع سقوط النظام، تجلت مظاهر هذا التحول في المشهد السوري بوضوح لا يمكن إنكاره، فقد شهدت البلاد تقدماً ملحوظاً في منسوب الحريات السياسية والصحفية والمدنية، وهو ما يعكس التحرر من قبضة الجهاز الأمني الشمولي.
والأهم من ذلك، بدأ العقل السوري يتحول من اعتياد السلطة كقدر محتوم إلى اعتياد السياسة كفعل يومي، إذ أصبح تغيير المواقف السياسية استجابة طبيعية لتغير المعطيات، وليس مجرّد استبدال شعارات بأخرى، ورغم التحديات الجمة التي تواجهها، بدأت منظمات المجتمع المدني تلعب دوراً حيوياً في مناطق مختلفة، مما يمثل محاولة جادة لتفعيل المجتمع المدني وبناء قاعدة للوعي المستقل عن الدولة، لتكون بمنزلة الحاضنة الجديدة للعمل السياسي.
ثانياً- مسارات ترسيخ الوعي المدني:
إنّ سقوط النظام يفتح الباب واسعاً أمام احتمالات إيجابية كثيرة، لكن هذا التحوّل الإيجابي يظل هشاً ما لم يتم ترسيخ الوعي المدني ليصبح المحدد الأساسي للبنية الذهنية الجديدة للمجتمع السوري، التحدي الحقيقي لا يكمن في إزالة النظام فحسب، بل في تجاوز الإرث الذهني الذي خلفه، وهو ما يتطلب جهداً مضاعفاً وممنهجاً عبر ثلاثة مسارات حاسمة ومتكاملة:
أولاً، تجاوز عقلية الثأر والانتقام، حيث يجب أن يحل محل هذه العقلية المدمرة، التي تهدد بإعادة إنتاج العنف، عقلية المساءلة والعدالة الانتقالية، هذه العقلية هي الضمانة الوحيدة لعدم العودة إلى الاستبداد، لأنها تؤسس لمبدأ سيادة القانون وتضمن ألا يبقى أحد فوق المحاسبة، مما يرسخ الثقة في المؤسسات الجديدة.
ثانياً، بناء ثقافة المشاركة السياسية الفاعلة، إذ يتطلب هذا المسار الانتقال الجذري من ثقافة الخوف والصمت إلى ثقافة المشاركة، فيجب أن يرى المواطن نفسه شريكاً ومسؤولاً عن بناء الدولة وصنع القرار، وليس مجرد متلقٍ للأوامر، وهذا البناء لا يتم إلا عبر تفعيل المؤسسات المدنية والسياسية التي تتيح التعبير الحر والمنظم.
ثالثاً، توحيد الهوية المدنية الجامعة، حيث أن المسار الأكثر أهمية هو العمل على بناء هوية وطنية جامعة تتجاوز الانقسامات الطائفية والعرقية والمناطقية التي عززها النظام السابق ببراعة، فيجب أن تكون المواطنة هي الأساس الأوحد للانتماء، وأن يتم التركيز على الحقوق والواجبات المشتركة لجميع السوريين، مما يضمن تماسك النسيج الاجتماعي في مرحلة ما بعد الصراع.
إنّ الرهان الحقيقي لم يعد محصوراً في سؤال “من يحكم؟”، بل تحول إلى سؤال أعمق وأكثر جوهرية، وهو “كيف يفكر السوريون في الحكم والمشاركة؟”
ختاماً، تقف سوريا اليوم عند مفترق طرق تاريخي وحاسم، لا يقل أهمية عن لحظة سقوط النظام نفسه، فالمستقبل يتوقف على مسارين لا ثالث لهما، أولهما، أن يعود العقل السياسي إلى الانغلاق والارتداد تحت وطأة التحديات الهائلة لبناء الدولة في مرحلة ما بعد الصراع، مستسلماً لإغراءات الإرث الشمولي وعقلية الثأر والانقسام، أو أن ينجح هذا العقل في ترسيخ الوعي المدني كقوة دافعة ومحرك أساسي للمستقبل، محولاً بذلك لحظة التحرر من الخوف إلى مشروع بناء متكامل.
إنّ الرهان الحقيقي لم يعد محصوراً في سؤال “من يحكم؟”، بل تحول إلى سؤال أعمق وأكثر جوهرية، وهو “كيف يفكر السوريون في الحكم والمشاركة؟”، هذا التحول في البنية الذهنية، من الرعية إلى المواطنة، ومن الخوف إلى “المساءلة”، هو الضمانة الوحيدة والحصينة لعدم تكرار مأساة الاستبداد التي كلفت السوريين عقوداً من الزمن.
فالوعي المدني هو جوهر الثورة الذي انتصر، وهو البوصلة التي يجب أن توجه كل خطوة نحو بناء سوريا الجديدة، دولة المواطنة والعدالة الانتقالية والمشاركة الفاعلة، إنّه التحدي الأخير والأهم الذي سيحدد ما إذا كانت نهاية الحقبة الشمولية هي حقاً بداية لحقبة مدنية مستدامة يأملها الأفراد في بناء سوريتهم الجديدة.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى