
ـ يشكّل رفع الجزء المهم من عقوبات ” قيصر” عن سورية في مجلس النواب الأميركي مؤخراً ، انتصاراً سياسياً وانفراجاً نسبياً في مسار التعافي الاقتصادي والاستثماري ، وهو مسار ما يزال ينتظر خطوات حاسمة وملموسة في ترسيخ الاستقرار الأمني بتنوّع أبعاده الجغرافية ، بما ينعكس إيجاباً على الاستقرار الاجتماعي الذي يمثّل حجر الأساس لأي نهضة اقتصادية حقيقية. غير أنّ هذا التطور على أهميته ، لا ينفصل عن تعقيدات المشهد الداخلي الذي يقف اليوم على عتبة منعطف بالغ الخطورة والحساسية ، الأمر الذي يستدعي من مؤسسات الحكم ودائرة القرار، ومن القوى الفاعلة داخل البلاد والمؤثرة خارجها ، الانخراط الجادّ في إعادة ترتيب البيت الداخلي السوري ، بما يضمن وحدة التراب الوطني وسيادة الدولة السورية على كامل أراضيها
ـ فالتحوّلات السياسية والميدانية التي شهدتها البلاد منذ مرحلة التحرير وحتى اليوم ، لم تكن مجرّد مكاسب آنية أو إنجازات ظرفية ، بل شكّلت قاعدة لمرحلة جديدة فتحت نافذة أمل للاستمرار في إعادة توحيد التراب السوري ، الذي لم تكتمل بعد أركان استقراره ، وما تزال تعترض طريقه مطبّات عميقة تعيق مسيرة توحيد الجبهة الداخلية في مواجهة التحديات الأمنية والاجتماعية المتزايدة. ومن يقرأ المشهد عن قرب يدرك تماماً .. أنّ الإنجازات الحيوية التي تحققت حتى الآن ، على الرغم من أهميتها البالغة .. لا تلغي وجود قفزات فرضتها ” أحكام فقه الضرورة ” فوق قرارات ومواقف مفصلية ، تراكمت على أرضية مثقلة بتحديات اجتماعية وخدمية وإدارية ، يمكن أن تنقلب فجأة إلى نقيضها .. إذا لم تُواكب بمنهج إصلاحي منظّم وملموس ، ورؤية حكومية واضحة ، وقدرة مؤسساتية متماسكة تعمل على استثمار اللحظة السياسية بسرعة وحكمة
ـ وهنا يمكن استحضار بعض التجارب الدولية على سبيل المثال : فألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية ، لم تنهض من تحت الدمار والركام بالدعم الخارجي وحده ، بل لأنها استعانت بخبرات وطنية سابقة ، لم تتورّط في جرائم النظام النازي ، لكنها امتلكت الكفاءة والمؤهلات اللازمة لإعادة بناء مؤسسات قوية قادرة على النهوض والبناء وإعادة الإعمار، ما أتاح لها تثبيت الاستقرار وبناء واحدة من أقوى الاقتصادات في العالم
ـ إن رفع العقوبات الأميركية والدولية ، مهما بدا براقاً ومبهراً ، ومهما رافقه من ضجيج إعلامي وضوضاء سياسية ، لن يكون قادراً على إنتاج استقرار داخلي مستدام .. ما لم تُقدِم الحكومة على خطوات ملموسة تبدأ بتأمين الحد الأدنى من المتطلبات اليومية للشعب السوري ، وضمان الحقوق الأساسية لكافة فئاته ومكوّناته ، باعتبار ذلك معيار الثقة الأول بين الدولة والمجتمع. ولعلّ من أبرز المخاطر التي تعترض تحقيق هذا التوازن استمرار الخلل البنيوي في العلاقة بين وزارات الدولة ومؤسساتها ، بما يفضي إلى تضارب الرؤى وتفكك الأهداف ، ويُبقي العمل الحكومي رهينة الصراعات الجانبية أو محاولات الاستئثار بالقرار على حساب الأداء المؤسساتي المتوازن. وقد تفاقم هذا الخلل بفعل توزيع الإرث الإداري على أساس الولاءات لا الكفاءات ، ما يجعل من الضروري تصحيح هذه الأخطاء عبر اتخاذ قرارات حاسمة ، بعيداً عن منطق ” الترقيع الحكومي” الذي لا يزال باهت اللون ، ويحتاج إلى رؤية واضحة ونور حقيقي يضيء مستقبل سورية المنشودة
ـ لقد أثبت التاريخ الحديث أن الدول التي تجاهلت إصلاح هياكلها الداخلية دفعت ثمناً باهظاً ، كما حدث مع الاتحاد السوفييتي الذي انهار ليس بفعل الضغوط الغربية وحدها ، بل نتيجة الفساد وتفكك مؤسساته وتآكل بنيته الإدارية وصراعات النخب داخله. وعلى النقيض تماماً ، نجد التجربة الماليزية التي قدّمت نموذجاً مغايراً في تجربتها الحديثة ، حين نجحت في تحويل تحدياتها الداخلية إلى عناصر قوة ، عبر محاربة الفساد ، والحدّ من التنافس الشخصي داخل مؤسسات الحكم ، واعتماد الكفاءة معياراً أساسياً في إدارة الدولة وبناء مؤسساتها
ـ إن استمرار الصراعات داخل الوزارات والمؤسسات والمديريات .. سيُبقي الدولة قائمة على أرضية رخوة وهشّة ، غير قادرة على تحمّل أثقال المرحلة المقبلة. ومن هنا .. فإن توحيد الجهود وصياغة استراتيجية وطنية متكاملة يشكّلان المسار الوحيد القادر على تثبيت المكاسب وفتح الباب أمام مرحلة أكثر استقراراً سياسياً واجتماعياً. وهي حقيقة تؤكدها أيضاً تجربة جنوب أفريقيا ، التي استطاعت تجاوز واحدة من أعقد مراحلها التاريخية عبر تبنّي صيغة ” المصالحة الوطنية ” ، ما حال دون الانفجار الداخلي ، وسمح بتأسيس دولة قادرة على العبور نحو الاستقراروالتطور والسلام
ـ إن أخطر ما يهدد اللحظة السورية الراهنة ، ليس الخصوم الخارجيون بقدرما تمثله الصراعات الداخلية ، سواء كانت خفية أو علنية داخل مؤسسات الدولة على النفوذ والمواقع الإدارية. فالتنافس السياسي بين القوى المختلفة .. يُعدّ جزءاً طبيعياً من أي مرحلة انتقالية ، أما التنافس داخل المؤسسات وخاصة عندما يتحوّل إلى غيرة وظيفية وحروب نفوذ ، فإنه يغدو سرطاناً مؤسساتياً ينهش بنية الدولة ويعيد إنتاج الترهل الإداري ذاته. وقد شهدت دول عديدة هذه الظاهرة ، من بينها لبنان ، حيث تحوّلت الإدارات العامة إلى ” جزر ” متناحرة ، عطّلت عمل الدولة وأفشلت فرص النهوض والتقدم ، رغم امتلاك البلاد آنذاك مقومات داخلية وخارجية كان يمكن أن تؤسس لمسار حقيقي من النجاح والازدهار
ـ وفي الحالة السورية ، بدأت بعض ملامح هذا المشهد تتشكل تدريجياً رغم عدم استقرار نظام الحكم بشكل نهائي بعد ، حيث ظهرت نزاعات على المناصب ومنافسات شخصية تتغذى على الغيرة والحسد ، تصل أحياناً إلى توجيه اتهامات للآخرين بهدف إقصائهم ، في تكرار لدروس تاريخية أثبتت خطورتها ، حيث تتقاطع هذه الظواهر مع شعارات تستحضر يوم التحرير والنصر مثل : ” من يحرر يقرر ” أو ” نحن أهل الثورة ” وغيرها من الشعارات العاطفية ، وهي شعارات ذات وقع وجداني ، لكنها تتحول عملياً إلى أدوات للإقصاء وإبعاد الكفاءات الضرورية
وفي هذا السياق ، لا يمكن لأي دولة أن تُبنى على مبدأ الاستحقاق العاطفي وحده. فالدول التي اعتمدت الإقصاء دفعت ثمناً باهظاً من انهيار أو انقسامات ، بينما الدول التي اختارت الاستعانة بالخبرات ودمج الكفاءات ، بما فيها تلك المنتمية لعهد سابق ، نجحت في تجاوز أزماتها ولملمة جراحها ، كما فعلت ” رواندا ” بعد الإبادة الجماعية ، حين استعادت خبرات من أطياف متعددة وسعت إلى البناء بدل اتباع أساليب العزل أو الثأر و الانتقام ، فحققت بذلك أحد أسرع معدلات التعافي والنمو في العالم
وفي خضم التحولات السورية ، تبدو الحاجة ماسّة إلى قراءة دقيقة لطبيعة وخطورة المرحلة ، خصوصاً أن الجميع داخل الإدارة الجديدة يرفع شعار الإصلاح. غير أن اختلاف الأفكار وأساليب الإدارة لا ينبغي أن يتحول إلى ذريعة لإفشال الآخر. فالإصلاح الحقيقي يُقاس بقدرة المؤسسات على الإنجاز، لا بتسجيل النقاط على الخصم الداخلي
أما ما يجعل الإقصاء أكثر خطورة فهو تضخيمه وتحويله إلى معركة وجودية ، مما يدفع الآخرين إلى الشعور بأنهم مستهدفون ، فيتحولون من معارضين محتملين إلى أعداء فعليين للعهد الجديد. وهؤلاء يصبحون أدوات جاهزة لأي طرف خارجي يسعى إلى زعزعة الداخل. ومن هنا ، فإن الاستعانة بكل من لم تتلطخ أيديهم بالدماء أو الفساد يمثل مكسباً حقيقياً للإدارة الجديدة ، وليس عبئاً عليها ، إذ إن سدّ الفراغات الإدارية يوفر استقراراً حكومياً وشعبياً ، ويمنع القوى الخارجية من استثمار هشاشة البيت الداخلي
ـ إن سورية اليوم .. ليست أمام فرص متعددة أو خيارات واسعة ، بل أمام نافذة ضيقة وصعبة ، محصورة بالتزامات دولية دقيقة. لذلك .. لا بد من التكاتف والتضامن الداخلي ، المصحوب بحسن إدارة الملفات الحساسة ، ليتمكن العهد الجديد من الخروج من عنق الزجاجة الأمريكية والدولية. فالانفراج الخارجي ، مهما كان محدوداً ، يمكنه أن يوفر هامشاً من الحركة ، يتيح استغلال الوقت واستثماره في بناء مؤسسات قوية ، تترافق مع إطلاق مسار إصلاحي شامل. إن التباطؤ في حسم الأمور المصيرية بشكل حاسم ، وعدم إنجاز الملفات الخطرة بسرعة وحكمة ، سيجعل الوقت للأسف ، حليفاً للخصوم ، كما شهدت محطات تاريخية لدول فشلت في استثمار لحظاتها المفصلية
ولذلك ، تحتاج البلاد اليوم إلى وقفة صادقة تمتلك شجاعة الاعتراف وشجاعة المعالجة. فالمستقبل لا يُبنى بالمحاصصة أو توزيع الغنائم ، بل بالعمل المتكاتف والمسؤولية المشتركة. ومن هنا ، تبرز ضرورة إعادة تقييم أداء الحكومة استعداداً لتعديل وزاري كبير يتماهى مع متطلبات رفع العقوبات وإطلاق الحياة التشريعية في البلاد ، ليضع سورية على طريق السلام والاستقرار والتطور والازدهار
المصدر: رأي اليوم



