أيُّ معنى للمفاوضات اللبنانية الإسرائيلية؟

توفيق شومان

لم يُعمِّر اتفاق 17 أيار/ مايو، المُوقَّع بين لبنان وإسرائيل عام 1983 أكثر من تسعة أشهر و18 يوماً، فقد أبطلته السلطات اللبنانية في 5 مارس/ آذار 1984، إثر استقطاب سياسي وعسكري محلّي حادّ. وفي اليوم التالي لفسخه، كتبت صحيفة السفير اللبنانية إن “الاتفاق منذ لحظة التوقيع عليه لم يكن أكثر من حبر على ورق”، واستعادت مواقف رئيسَي الوفدَيْن المفاوضَيْن بعد إبرام الاتفاق، اللبناني أنطوان فتال والإسرائيلي ديفيد كيمحي. فالأول قال: “الاتفاق سيدخل حيّز التنفيذ خلال أيام”، وجاهر الثاني بـ”إن الانسحاب الإسرائيلي من لبنان لن يبدأ قبل أن تتسلّم إسرائيل الأسرى (من سورية)، وقبل أن يرحل السوريون والفلسطينيون من لبنان”.
وعلى ما بدا لاحقاً، كان لبنان يأمل بحصاد الريح، أمّا إسرائيل فقد كانت تدرك ما تريد، إذ ربطت انسحابها من الأراضي اللبنانية المحتلّة بأطراف ليست على صلة بالاتفاق الثنائي مع لبنان، وآزرها في ذلك الراعي الأميركي للاتفاق. فقد تبيّن بعد حين أن الولايات المتحدة كانت قد تفاهمت جانبياً مع إسرائيل على إثارة الوجودَيْن السوري والفلسطيني في لبنان، وإحكام إخراجهما منه شرطاً للانسحاب الإسرائيلي، وإلا فلا انسحاب ولا من يحزنون.
وافق لبنان في اتفاق 17 أيار على تحويل جنوب لبنان إلى منطقتَيْن أمنيَّتَيْن، واحدة تمتدّ من نهر الزهراني إلى الحدود الفلسطينية المحتلّة، يُشرف عليها “لواء إقليمي”، عموده الفقري من العناصر المتعاونة مع جيش الاحتلال الإسرائيلي. كما أقرّ إنشاء “مكاتب اتّصال” مع إسرائيل شبيهة بالسفارات، وتوسيع مهامّ القوات الدولية في الأراضي اللبنانية كافّة، وإيلاء أمن الطرق السريعة من بيروت إلى الجنوب للقوات المتعدّدة الجنسيات، وتطوير حركة تبادل السلع والمنتجات، وإنهاء حالة الحرب وإيقاف الدعاية الإعلامية المعادية. ومع ذلك، خرج الإسرائيليون بعد هنيهة من توقيع الاتفاق ليجهروا (ويُشهروا) بأنهم باقون في لبنان ما بقي الفلسطينيون والسوريون، وهذا ما أعلنه وزير الدفاع موشيه أرينز في اليوم الذي تلا المصادقة على اتفاق 17 أيار. الأسئلة التي رافقت ذاك الاتفاق (وما زالت): هل وقع اللبنانيون في جُبّ الخديعة؟ هل ثمّة من أنزلهم إلى بالوعة الغشّ؟ أم أنهم ارتضوا، راضين مرضيّين، الترجّل في متاهة التمويه والتضليل التي أجادت واشنطن وتل أبيب ترقيص اللبنانيين على حبالها؟
ما معنى أن يفاوض اللبنانيون إسرائيل، ثم يكتشفون أن المفاوضات من دون معنى؟
يقول الرئيس أمين الجميّل في كتابه “الرهان الكبير”، عندما عُرض الاتفاق على مجلس النواب اللبناني في 16 مايو/ أيار وصادق عليه بأكثرية 65 نائباً، “ربطت إسرائيل انسحابها بشروط جديدة فوجئنا بها، وذكرها ديفيد كيمحي في رسالة إلى موريس درايبر (رئيس الوفد الأميركي راعي الاتفاق)، وهذا نصّها: إن هذا الاتفاق مقيّد بتنفيذ ما يأتي: الحصول على المعلومات المتعلقة بجنودنا الذين فُقدوا أثناء العمليات العسكرية، وإطلاق سراح أسرى الحرب الإسرائيليين في سورية ولدى منظّمة التحرير الفلسطينية، واستعادة رفات الجنود الإسرائيليين، وانسحاب جميع العناصر المسلحة لمنظّمة التحرير، وانسحاب القوات السورية بالتزامن مع الانسحاب الإسرائيلي”.
وفي التعليق على هذه الرسالة، يقول الجميّل: “الرسالة تعني في الواقع تعليق تطبيق الاتفاق، من دون أن نستطيع القيام بأيّ عمل لمعالجة الأمور الواردة فيها، وإصرار إسرائيل على تحميلنا مسؤولية جلاء القوات السورية، وإطلاق سراح جنودها الأسرى، وإعادة رفات جنودها، وهي في حوزة سوانا وليس لنا عليه أي تأثير. موقف ظاهر للعيان يجعلنا نشكّ في حقيقة نيّات محاورينا من الإسرائيليين”.
والمعطيات نفسها سيعيد الجميّل الحديث عنها في كتابه “الرئاسة المقاومة”، ويضيف إليها: “قال لي موريس درايبر: أفهم الإحباط الذي تشعرون به، الوزير جورج شولتز (وزير الخارجية الأميركي) يؤكّد لك دعمه، وسوف تبذل واشنطن كل الجهود في إسرائيل وسورية لحلحلة الوضع”. وإذ يعتبر الجميّل رسالة ديفيد كيمحي هرطقةً قانونيةً تعطي لإسرائيل صلاحية تعليق الاتفاق، فإنه يستحضر اتهام وزير الدفاع الأميركي غاسبر واينبرغر لزميله جورج شولتز بالرياء. ومع ذلك يتساءل الجميّل: “أي مبرّرات حملت إسرائيل على إهدار هذه الشهور والجهود كلّها في سبيل اتفاق، قبل أن تقرّر نسفه وجعله حبراً على ورق؟”… وهذا التساؤل سيجد الرئيس اللبناني الأسبق إجابةً عنه لدى وزير الخارجية الفرنسي كلود شيسون، الذي ضحك حين سأله الجميّل، وقال: “بحسب معلوماتنا، منذ اليوم الأول لم تكن إسرائيل تريد الاتفاق”.
وفي حوار مع مجلة المجلة السعودية (23/6/2000)، يعطي أمين الجميّل تفسيراً للخروج الإسرائيلي المبكّر من اتفاق 17 مايو، فيرى أن إسرائيل كانت بحاجة إلى رفع القيود التي فرضتها الولايات المتحدة عليها عقب غزوها لبنان عام 1982، وهذا ما حصل حين اجتمع الكونغرس الأميركي فوراً بعد 17 مايو ورفع القيود. ويقول: “وكان الاتفاق حجّة لأميركا لرفع القيود عن إسرائيل، وإنني أعتبر أن الاتفاق وُلد ميتاً”.
في اتفاق 17 مايو وافق لبنان على تحويل جنوب لبنان إلى منطقتَيْن أمنيَّتَيْن
الرواية نفسها سيسردها وزير الخارجية اللبناني إيلي سالم، وهو أحد أركان الاتفاق، ففي كتابه “الخيارات الصعبة” يتطرّق إلى جزئيات وتفاصيل، والجامع بينها تصميم إسرائيل على الربط بين انسحابها من لبنان وانسحاب الجيش السوري منه. ولا تغفل نصوص الكتاب إظهار انزياح وجهة النظر الأميركية إلى إسرائيل: “وللأسف، بدا جورج شولتز مقتنعاً بأن إسرائيل لن تنسحب قبل انسحاب السوريين والمقاتلين الفلسطينيين”. وقال شولتز لإيلي سالم: “إسرائيل تسعى لتحقيق أمنها، وإذا سمحت للسوريين ولمنظّمة التحرير الفلسطينية بالبقاء في لبنان، فاجتياحها للبنان يكون قد فشل ولم يحقق شيئاً، وهذا ما لا يمكن لأي حكومة إسرائيلية أن تتحمله”.
وهذا الرأي لا يغادره إيلي سالم، واستدعاه مجدّداً في حوار مع صحيفة نداء الوطن البيروتية (16/3/2024)، مؤكّداً أن إسرائيل ألغت الاتفاق حين أرسلت رسالة ضمّنتها بأنه “لن يُنفّذ إلا إذا خرجت سورية والجيش السوري وكل الفلسطينيين المسلحين، وأُطلق كل الأسرى الإسرائيليين عند العرب. أمّا لماذا إسرائيل فاوضت ووقّعت ثم كذبت، صدقاً لا أعرف”.
وفي الشهادة النادرة لأنطوان فتال، رئيس الوفد اللبناني المفاوض (وكان كثير الصمت ومقلّاً في الكلام)، الواردة في رسالة كفاءة جامعية لمهى ياسين نعمة ونشرتها صحيفة السفير (9/5/1987)، أن جورج شولتز كان كريهاً ولم يكن دبلوماسياً، وأن الدور الأميركي كان ضاغطاً بكل ما للكلمة من معنى. ومع ذاك “المعنى” يطلّ السؤال التالي: ما معنى أن يفاوض اللبنانيون إسرائيل، ثم يكتشفون بعد لأيٍ ومشقّةٍ أن المفاوضات من دون معنى؟… هو مجرّد سؤال!

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى