ما حدث وما لم يحدُث في احتفالات سورية

محمود الريماوي

تصادف وجود كاتب هذه السطور في بحر الأسبوع الماضي، في العاصمة السورية، مع الاحتفالات بالذكرى الأولى للتغيير، والتي امتدّت يومَيْن، وشملت مدناً أخرى إضافة إلى دمشق، ليس بينها السويداء (جنوباً)، ولا الحسكة والرقّة والقامشلي (شمال شرقي البلاد)، بناءً على قرار “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بمنع الاحتفالات في المدن الثلاث الأخيرة. وقد ظهرت الاحتفالات على قدر من البساطة والسيولة، باستثناء العروض العسكرية المهمّة للجيش السوري الجديد، التي دلّت على إنجاز كبير للمؤسّسة العسكرية. وكان قد سبق ذلك عرضٌ لسيارات عصرية للشرطة السورية ضمن ما أُطلق عليه “الهُويَّة البصرية الجديدة” لوزارة الداخلية. وقد أُعيد إصدار صحيفة الثورة ورقياً وإلكترونياً باسم “الثورة السورية”، وقد جاءت على قدر من الجودة التقنية ومن زخم الموضوعات التحليلية المنشورة، لكنّها خلت للأسف من الأخبار، وهذه عماد الخدمة الصحافية. وبينما اتسمت الاحتفالات بمواكب شعبية سيّارة، وبحشد من الرايات الوطنية، العلم السوري بنجماته الثلاث، فقد لوحظ أن بعض المواكب قد رفعت راية هيئة تحرير الشام، وهو أمر مُستغرَب لأن الهيئة قد حُلَّت واندمج أفرادها في الجيش الوطني الجديد، ولعلّ ذلك ناجم عمّا سبق أن سمّاه وزير الدفاع مرهف أبو قصرة بالحاجة إلى مزيد من الانضباط.
كان يُؤمَل أن تتخذ الاحتفالات طابعاً سياسياً بخطابٍ رئاسيٍّ يحدّد ملامح المرحلة المقبلة، ويشدّد على وحدة البلاد والعباد والسيادة الوطنية، في إطار من دولة المواطنة والوحدة الوطنية. وقد استُعيض عن ذلك بخطاب احتفالي تعبوي موجز. وكان من شأن الطابع السياسي للاحتفالات مشاركة رموز من التيارات السياسية والقوى الاجتماعية والمدنية في الاحتفال الرئيس، للتدليل على أن النظام الجديد يأتلف، بالمعنى الواسع للتعبير، مع أوسع طيف من القوى السياسية والفكرية والاجتماعية في البلاد، وهو ما تحتاجه سورية في هذه المرحلة الانتقالية شديدة الأهمية، لكن ذلك لم يحدُث. وقد لوحظت مشاركةٌ واسعةٌ للنساء وللشبّان في العاصمة، ورغم وقوع إصابات نتيجة التزاحم والتدافع، لم تُسجّل مشكلات خطيرة. وتمثّلت المشكلات الآنية في انقطاع المواصلات العامّة، واضطرار المشاركين للذهاب إلى أعمالهم والعودة منها سيراً على الأقدام (في بلد مجاور مثل تركيا، تحافظ المواصلات العامّة في المناسبات الوطنية على انتظام عملها، وتُعيّد الجمهور بتمكينه من استخدامها بالمجّان). وقد اشتكى مواطنون من كثرة الدرّاجات النارية التي يقودها سائقوها الشبّان باندفاع كبير وبطريقة لولبية، ما ينطوي على مجازفة بسلامة المارّة والسائقين أنفسهم. غير أن قدرة السوريين على التكيّف مع الظروف والمفاجآت الصعبة كانت لافتة.
رفعت بعض المواكب راية هيئة تحرير الشام، وهو أمر مُستغرَب لأن الهيئة قد حُلَّت واندمج أفرادها في الجيش الوطني الجديد
ومن بين المشاهد العديدة المفعمة بعاطفة جيّاشة، لاحظ الكاتب تجمهر أشخاص كثيرين حول صور لأحبّائهم الشهداء، ملصقة على جدار مسجد كبير يقع في حيّ الميدان. وغير بعيد من المكان، وفي حديقة عامّة صغيرة، كان أبٌ مكلوم يوزّع أطباقاً من الحليب المطبوخ بالنشاء على روح ابنه الشاب الشهيد، وذلك بعد التحرّر من نظام آل الأسد، الذي كان يمنع عائلة مكلومة من استذكار ابنها الشهيد.
في دول عديدة، يقترن الاحتفال بالمناسبات الوطنية باتخاذ قرارات مهمّة ذات منحىً إيجابيٍّ على الجمهور، وتجري إذاعتها في المناسبة. كان كاتب هذه الكلمات يتوقّع أن يقترن الاحتفال بالذكرى الأولى للتغيير (التحرير) بافتتاح مجلس النواب بأعضائه الجدد. ورغم أن الانتخابات التي تمّت من طريق هيئات ناخبة، وليس بالاقتراع المباشر لعموم الناخبين، قد أُنجزت قبل بضعة أسابيع، إلا أنها لم تُستكمل بعد بتعيين رئيس الجمهورية ثلث أعضاء المجلس (70 عضواً) من أجل سدّ ثغرات التمثيل، وضمان أكبر نسبة من التفويض الشعبي. كان من شأن افتتاح المجلس بهذه المناسبة أن يدلّل على أن سورية دخلت مرحلةً جديدةً، وأن مجلس النواب يمثل باكورة المؤسّسات التمثيلية الوطنية، لكنّ ذلك لم يحدث، حتى إن أخبار المجلس غائبةٌ من الفضاء العام ووسائل الإعلام، على قلّتها، وفي القناعة أن ذلك يدلّ على بطء غير مبرّر.
وفي تفسير أورده بعض الزملاء الصحافيين، كانت السلطات تأمل أن يتم تنفيذ اتفاق 10 مارس مع “قسد”، وأن يُتاح خلال ذلك ملء 19 مقعداً للحسكة والرقّة والقامشلي، لكن تطبيق الاتفاق تعثّر، ولا تبدي الإدارة الذاتية الكردية حماسةً للاندماج في النظام الجديد، ومن ضمنه المؤسّسة العسكرية، وهو ما يفسّره منع “قسد” الجمهور في مناطقها من الاحتفال بالتغيير، ما يثير تساؤلات عديدة حول المنحى السياسي والأمني الذي تعتزم “قسد” أن تتخذه رغم ما تبديه الإدارة الأميركية، راعيتها، من إشارات إيجابية نحو النظام الجديد، ومع المشاركة النوعية النشطة للقوات المسلّحة في مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
تمثّل التعدّيات الإسرائيلية شبه اليومية تحدّياً جسيماً بما تنطوي عليه من تهديد للسيادة السورية
وإذ تتفق الشريحة العريضة من الجمهور على أن النظام الجديد قد أبدى كفاءةً عاليةً وديناميةً مثيرةً للإعجاب في مجال السياسة الخارجية، وكان من آثارها رفع نسبة كبيرة من العقوبات، وبدء واشنطن إجراءات وقف سريان قانون قيصر، ما يثير آمالاً كبيرة، إلا أن التعدّيات الإسرائيلية شبه اليومية تمثّل تحدّياً جسيماً، بما تنطوي عليه من تهديد للسيادة، ومن مخاوف قضم أراضٍ جديدة، ومن محاولات لزعزعة استقرار البلاد. وهو ما يستحقّ أن يتركّز الجهد السياسي والدبلوماسي عليه في المرحلة الراهنة، بعد النجاح في نسج أفضل العلاقات مع دول الإقليم والعالم ومع المراكز الدولية.
الاستباحات الإسرائيلية المُتكرِّرة، التي لم تتوقّف خلال احتفال السوريين بالذكرى الأولى للتغيير، كانت تبثّ رسائلَ مقلقةً لدى شرائح عريضة من الجمهور حول أمن بلدهم واستقراره في الحاضر كما في مقبل الأيام، وبخاصّة مع سعي دولة الاحتلال إلى تمزيق النسيج الوطني والاجتماعي. وفي الظنّ أنه لا حاجة لتكرار عبارات تتحدّث عن عدم قدرة البلاد، في وضعها الراهن، على المجابهة العسكرية مع القوات الغاشمة المُعتدية، فذلك أمر مفهوم ولا يحتاج إلى مزيد بيان. بينما تتمثّل الحاجة في هذه الظروف في تعبئة الموارد السياسية والدبلوماسية من أجل عقد علاقات وثيقة وتفاهمات راسخة مع دول وازنة، مؤدّاها أن التعدّيات الإسرائيلية تحمل تهديداً للمعادلات السياسية والاستراتيجية في المنطقة والإقليم، فوق ما تحمله من مخاطر مباشرة ولاحقة على سورية والسوريين، ما يستلزم بذل جهد متعدّد الأطراف لوقف الرعونة الإسرائيلية الخطيرة ضدّ سورية، كما ضدّ غزّة والضفة الغربية ولبنان.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى