
في الوقت الذي تستعدّ فيه الحكومة المغربية لعملية الإعداد لانتخابات 2026 التشريعية، اندلع حراك اجتماعي شمل مدناً مغربية عديدة، يقوده شباب يحمل اسماً وشعارات محدّدة، ويتحدّث بلغة تشير إلى بعض خياراته في العمل السياسي. ومنذ 27 سبتمبر/ أيلول الماضي، لم يتوقّف الحراك، وتوضح يومياته أنه سيتواصل من أجل بلوغ الأهداف المتوخّاة منه. أطلق المتظاهرون على أنفسهم اسم “جيل زد ـ 212″، وشكّل فضاء الشبكة المجال العام لتسييرهم مختلف التجلّيات التي تمظهر بها حراكهم في الشارع، سواء في ميادين التظاهر أو في نوعية الشعارات (والمواقف) التي عبّروا عنها بالكلمات واللافتات والأغاني ترافق صور حضورهم في ميادين عمومية عديدة، أو عبّروا عنها في نقاشاتهم داخل تطبيق منصّة ديسكورد. شباب تتراوح أعمارهم بين 13 و28 سنة، يرتبطون في عملية نشأتهم (وتكوينهم) بمختلف الآليات المرتبطة بتقنيات الفضاءات الافتراضية، ويرتبطون، في الآن نفسه، بآليات عمل “جيل زد” في الصورة التي برز فيها في بلدانٍ عديدة، بما تحمله من روح جديدة في نمط الاحتجاج داخل مجتمعات عديدة.
تشكّل تطبيقات “ديسكورد” فضاءً للتواصل والنقاش، وبناء الخيارات، وأشكال الحضور الذي يُعدُّ بمثابة المظهر الأبرز اليوم في المشهد السياسي المغربي. وإذا كنا نعرف أن الاحتجاجات لم تتوقّف في الشارع المغربي منذ إعلان نتائج الانتخابات التشريعية سنة 2021، التي أنتجت أغلبيةً يقودها حزب التجمّع الوطني للأحرار برفقة حزب مماثل له من أحزاب الإدارة (حزب الأصالة والمعاصرة)، وحزب الاستقلال. وقد شكّلت هذه الأغلبية نمطاً جديداً في تاريخ الأغلبيات التي رُكّبت في السنوات الماضية، نمط كشف للمهتمّين بالنظام السياسي المغربي قدرته المتواصلة على تسيير الخرائط الحزبية والانتخابية، وما يترتّب عليها من نتائج ترتبط بالحكومات والسياسات العامة. ولأن أغلبية حكومة 2021 رُتّبت لتكون حكومة أعيان وتكنوقراط، فقد واجهت منذ بدايتها صعوباتٍ عديدةً، كشفتها احتجاجات شملت قطاعات عديدة في الصحّة والتعليم، وعكست إرادةً سياسيةً تتجه إلى محاربة الفساد والمُفسِدين.
تَابَعْتُ حراك “جيل زد” بكل ما رافقه من أحداث، وصاحبه من أسئلة وتوقّعات، تابعته متسائلاً ومحاولاً معرفة علاقة شعاراته بالوضع السياسي العام في المغرب، الذي يستعدّ (كما أشرت آنفاً) لإطلاق مشروع دورة انتخابية جديدة سنة 2026، ورغم أنه نشأ في قلب حوارات الشباب داخل فضاء الشبكات، التي تغطّي الفضاء الافتراضي برحابته كلّها، وتتسع مستفيدة من تقنيات التواصل الجديدة، لتحتضن أصوات الشباب المُشتبِك داخله تداولاً وحواراً، ليعبّر عن نمط جديد من الاحتجاج يتجاوز الأشكال المعهودة في هذا الباب.
جيل جديد من المحتجّين، يحاول تجاوز لغة المعارضة المؤسّسية في البرلمان وفي الإعلام التقليدي
لن أهتم هنا بالتطوّرات الأولية التي حصلت بعد انطلاق الحراك، وحوّلت بعض أوجه التظاهر السلمي من ترديد بعض الشعارات، إلى إلحاق الأضرار ببعض المحلّات التجارية والمؤسّسات. ولن أهتم بصوّر تدخّل أجهزة الأمن والقوات المساعدة في مواجهة الشباب المتظاهر، فمثل هذه الأحداث تتكرّر في المناسبات المماثلة لأسباب متعدّدة. إن قدرة المتظاهرين على لجم أفعال التظاهر وترتيب مواعيدها الجديدة، وقدرة أجهزة الأمن والنظام على التدخّل بحسابات محدّدة، حاصر إمكانات التصعيد، التي تتجاوز الأفق الذي رسمه الشباب لأنفسهم، وهم يستعدّون لإعلان غضبهم وقول كلمتهم.
لم تكن حركة “جيل زدـ212” وهي ترفع صوتها محتجّةً، واضحةً تمام الوضوح، سواء في نمط احتجاجها أو في الأهداف التي تروم بلوغها، كانت مثل أغلب حركات الاحتجاج الرقمية تُظهِر وتُخفي، تُعلن وتُضمِر. كانت مثل شبيهتها حركة 20 فبراير (2011)، من إنتاج الشبكات، حركة احتجاج من خارج مؤسّسات الدولة ومؤسّسات المجتمع المدني، حركة احتجاجية مفتوحة، لا تتردّد في نقد المؤسّسات، ولا نستبعد اختراقها من بعض أصناف الذباب الإلكتروني. اختار أصحابها إعلان انتمائهم للجيل الذي نشأ وترعرع في العهد الجديد، داخل أروقة الفضاءات الافتراضية ومواقعها ومنصّته الجامعة اليوم، حيث يحصل التداول والتشارك والترتيب الأفقي بين الشباب في منصة ديسكورد المفتوحة على سماوات لا حدود لها. ولأنّ الأمر كذلك، ولأنّ الحركة (كما قلنا) تُظهِر وتُخفي، فقد بدا لنا أن حركتها الاحتجاجية مفتوحة على المشهد السياسي والحزبي والمؤسّسي في المغرب بمختلف معاركه وتحدياته، رغم اختيار المحتجّين العناية بقضايا الصحّة والتعليم والشغل، ودعوتهم إلى العدالة والكرامة ومحاربة الفساد.
تدعو احتجاجات “جيل زد” إلى إتمام عملية الانتقال الديمقراطي الذي ما زال مؤجلاً
قبل اندلاع حراك “جيل زد”، نهاية الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، لم يكن فضاء المجتمع المغربي (كما أشرنا) خالياً من الاحتجاج على الحكومة القائمة وسياساتها، وكانت تبرز بين الحين والآخر احتجاجات عديدة في قطاعات الصحّة والتعليم، كما كانت تبرز احتجاجات أخرى في التنديد بالغلاء والفساد والتطبيع، إلا أن مختلف هذه الحركات لم تستطع تحقيق ما تمكّن حراك “جيل زد” من تحقيقه. وهكذا تحوّل الحراك الناشئ أفقاً تجاوز مختلف التحرّكات التي نشأت في قطاع التعليم، وفي كلّيات الطبّ المغربية، كما تجاوز الأصوات التي كانت تطالب بمحاربة الغلاء والفساد، وتدعو إلى محاسبة المُفسِدين. لقد بدا لنا أن “جيل زد” يروم مساءلة أسس السياسات والخيارات القائمة.
يمكن أن تُقرَأ شعارات هذا الجيل في صيغها المباشرة، ويمكن أن تُقرَأ بصورة أخرى، من أجل اقتراب أكبر من روح ما نفترض أنها تخفيه، فنجد أنفسنا أمام جيل جديد من المحتجّين، يحاول تجاوز لغة المعارضة المؤسّسية في البرلمان وفي الإعلام التقليدي، وهذا الجيل استأنس بنقد تضارب المصالح في الحكومة القائمة، نقد مظاهر الجمع بين المال والسياسة، كما تجاوز نقد المعارضات السابقة قبل ذلك، فكان يُندَّد بجمع الحكومتَين السابقتَين على الحكومة الحالية بين الدين والسياسة، واستخدام الدين في العمل السياسي.
نتصوّر أن احتجاجات “جيل زد” تتجه إلى الدعوة إلى نقد الأحزاب المتواطئة مع النظام، على مختلف مظاهر المشهد السياسي. إنها تروم تنزيل دستور 2011 الذي ما تزال كثير من فصوله مجرّد حبر على ورق، ولعلّها تدعو إلى إتمام عملية الانتقال الديمقراطي، الذي افترض الفاعل السياسي في بدايات العهد الجديد أنه من المهام الرئيسة لهذا العهد، وما يزال الجميع ينتظر ولوج الزمن الديمقراطي.
المصدر: العربي الجديد