السردية الإسرائيلية الملتبسة لنهاية حرب غزّة

   رندة حيدر

تواجه السردية الإسرائيلية التي يروّجها أتباع نتنياهو بشأن نهاية الحرب في غزّة، والإنجازات التي حقّقتها إسرائيل من الاتفاق على وقف إطلاق النار صعوبات عديدة على صعيد إقناع الرأي العام الإسرائيلي بها؛ إذ على الرغم من الشعور العارم بالفرح الذي ساد كل الإسرائيليين يوم الاثنين، والمشاهد المؤثرة عن لقاء الرهائن مع عائلاتهم، ساد شعورٌ آخر لا يقلّ أهميةً، وهو الإحساس بالحزن والإحباط على “الرهائن” الذين قضوا في الأسر، وكان في الإمكان إطلاق سراحهم أحياء، والقلق بشأن جثامين الرهائن التي يبدو أنّ العثور عليها سيستغرق وقتاً، ويتسبّب بمعاناة أطول. بالإضافة إلى السؤال لماذا انتظرت الحكومة الإسرائيلية كلّ هذا الوقت للموافقة على صيغة اتفاق كان مطروحاً منذ مارس/ آذار الماضي؟

ومما يفاقم الشعور بالإحباط يوماً بعد آخر في وسط الرأي العام الإسرائيلي، بعد مرور أيام على وقف النار، وانسحاب الجيش الإسرائيلي إلى الخط الأصفر، أنّ شيئاً لم يتغيّر بصورة ملموسة على الأرض، في ما يتعلق بالوجود العسكري لحركة حماس التي ما تزال تسيطر على الأرض، وتشرف على توزيع المساعدات الإنسانية، وتنظيم حياة الناس، وفرض النظام، وملاحقة المتعاونين مع إسرائيل. يؤكّد هذا كلّه أن هذه الحرب لم تنتهِ بالنصر المطلق الذي وعد به نتنياهو الإسرائيليين، ولم تنزع سلاح حركة حماس، على الرغم من الدمار الكبير الذي لحق ببُنيتها العسكرية، وليست هناك مؤشّرات تدل على قيام حكم بديل في وقت قريب، لا توجد فيه “حماس” التي تسيطر حالياً على الوضع في القطاع بموافقة أميركية، إلى حين نشوء حكم وسلطة بديلة لم تتضح معالمهما بعد.

في الوقت عينه، بات من الواضح للجميع أنّ إنهاء الحرب في غزّة لم يكن ليحدُث لو لم يفرضه الرئيس دونالد ترامب على بنيامين نتنياهو، وأنّ السبب الذي سرّع التوصل إلى اتفاقٍ على وقف إطلاق النار هو المحاولة الإسرائيلية الفاشلة لاغتيال قيادة “حماس” في الدوحة، الأمر الذي دفع ترامب إلى وضع كل ثقله لإنهاء الحرب. والأهم والأخطر من هذا كلّه ما يكرّره أكثر من مراقب ومعلق سياسي في إسرائيل أنه كان في الوسع التوصل إلى هذا الاتفاق قبل عام، لولا تعنّت نتنياهو بتحقيق “النصر المطلق” الذي تبيّن أنه مستحيل الحدوث.

تحذيرات من مغبّة زرع الأوهام التي يروّجها نتنياهو وأتباعه بشأن الإنجازات التي حققها الاتفاق

وحتّى الجلسة الخاصة التي عقدها الكنسيت في مناسبة الإعلان عن انتهاء الحرب، كانت موضع جدل وسط الإسرائيليين، فقد أثارت المظاهر الاحتفالية التي رافقت الإعلان عن انتهاء الحرب، ولا سيّما جلسة الكنيست في يوم الاثنين التي أراد نتنياهو أن يحوّلها إلى جلسة تاريخية بطلها دونالد ترامب، ردّات فعل متباينة وسط الإسرائيليين. ففي حين عملت أبواق نتنياهو الإعلامية على التضخيم من أهمية ما حدث، وتصوير الاتفاق صفحةً جديدة في تاريخ الشرق الأوسط، فضح إسرائيليون كثيرون المشهديّة الزائفة، وعبّروا عن استيائهم حيال مظاهر التزلُّف والتملُّق التي ظهرت في الكنيست من كلِّ حدب وصوب، وحتى من زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير ليبيد. وقد وصف عضو الكنيست من تكتل حداش، عوفر كسيف، جلسة الكنيست التي حضرها ترامب بـ”العرض الإمبراطوري المقزّز”؛ بينما وصفها المعلّق جدعون ليفي في “هآرتس” أنّها: “مهرجانٌ من الثناء على النفس والأنانية والنكران”.

ومع مرور الوقت، وفي ظل عدم تبدّل الواقع على أرض غزّة بصورة جذرية، أو بالطريقة التي وعد فيها نتنياهو الإسرائيليين، تزداد الشكوك لدى عديدين في إسرائيل من أنّ اتفاق إنهاء الحرب لم يقدّم حلاً فعلياً لمشكلة “حماس” وسلاحها، وقد يكون مجرّد ترقيعات موقتة وترتيبات غير واضحة، يمكن أن تنهار في أي لحظة. بينما تزداد تحذيرات المعلقين الإسرائيليين من مغبّة زرع الأوهام التي يروّجها نتنياهو وأتباعه بشأن الإنجازات التي حققها الاتفاق، والتي يمكن أن تتبدّد بسرعة، وتتحطّم على أرض الواقع الذي يبدو أكثر تعقيداً بكثير مما يتخيّل.

هل انتهت الحرب فعلاً أم أنّ ما يجري فصل من مواجهة لم تنتهِ فصولها بعد؟

والسؤال الذي طرحه الإسرائيليون حالياً، وينعكس في تعليقات الصحف الإسرائيلية والمواقع الإخبارية: هل انتهت الحرب فعلاً أم أنّ ما يجري فصل من مواجهة لم تنتهِ فصولها بعد؟، وما يعزّز هذا الانطباع دعوة لجنة أهالي المخطوفين إلى الاستمرار في تحرّكهم الاحتجاجي، حتّى استعادة كل جثامين الرهائن، والتحذيرات التي تنطلق من أكثر من مسؤول عسكري إسرائيلي أنّ أيّ خرق تقوم به “حماس” للاتفاق سيؤدّي إلى تجدّد القتال، ومحاولات نتنياهو توظيف استعادة أسراه في المعركة الانتخابية المقبلة.

قد تكون السردية الإسرائيلية الملتبسة بشأن نهاية الحرب في غزّة انعكاساً للتصدّعات التي خلفتها الحرب نفسها في المجتمع الإسرائيلي خلال عامين، والذي على الرغم من وحدته حول جيشه، شهد تفاقماً في الانقسام العمودي في داخله بين العلمانيين الذي تحملوا العبء الأكبر من القتال، والمتديّنين الذين يرفضون الخدمة في الجيش، كما زادت الحرب من الانقسام بين اليمين المسياني المتشدّد الذي رأى في حرب غزّة فرصةً لإحياء المشروع الاستيطاني للقطاع وتطبيق السيادة على الضفة الغربية، وبين من يرى أنّ ما آلت إليه هذه الحرب يؤكّد، مرّة أخرى، أنّ الخيار العسكري لا يمكن أن يشكل الحلّ لمشكلة الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزّة والضفة الغربية، ولا بدَّ من رؤيةٍ سياسيةٍ شاملةٍ تنبع من إرادة الإسرائيليين وقناعاتهم، ولا تفرض عليهم من الخارج.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى