
لا تبدو الانتهاكاتُ الجويةُ الروسيةُ فوق إستونيا وبولندا، وتحليقُ المُسيّرات قرب رومانيا أحداثاً متفرّقة. ما يتبلور هو نمط ضغطٍ منتظمٌ يقيس زمنَ استجابة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وصلابة الموقف الأوروبي، ويختبر قدرةَ العواصم على تحويل التضامن السياسي أدواتِ ردعٍ عملية. المعنى يصنعه انتظامُ الوقائع وتراكمُها، لا ضجيجُ كل حادثةٍ على حدة، إذ يُقاس الأثر بتقارب المواعيد وتعدّد الجبهات وأسلوب التمرير تحت العتبات القانونية والعسكرية الحاسمة.
أخيراً، دخلت ثلاثُ مقاتلاتٍ روسيةٍ من طراز ميغ-31 المجالَ الجوي الإستوني لنحو 12 دقيقة قرب جزيرة فايندلو في خليج فنلندا، وتزامن ذلك مع إعلان بولندا مروراً منخفضاً لمقاتلتَين روسيَّتَين فوق منطقة الأمان لمنصّة الحفر بيتروبالتيك في البلطيق. قبلها بأيام، قالت وارسو إن 19 مُسيّرةً روسيةً اخترقت أجواءها وأُسقِطت ثلاثٌ منها، فيما أفادت رومانيا بتحليق مُسيّرةٍ فترةً رغم إقلاع طائراتٍ لاعتراضها. سياسياً، جاء ردُّ مؤسّسات الاتحاد الأوروبي متّسقاً، فأكّد رئيسُ المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا أنّ الاتحاد “يقفُ بثباتٍ متضامناً مع إستونيا”، معتبراً الانتهاك “تأكيداً للحاجة الملحّة إلى تعزيز الجناح الشرقي وتعميق التعاون الدفاعي وتكثيف الضغط على روسيا”، مع التعهّد بمناقشة “ردٍّ جماعي” في قمّة كوبنهاغن غير الرسمية. وقالت رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين: “سنردّ بحزمٍ على كل استفزاز، ومع تصاعد التهديدات سيتصاعد ضغطنا”، ودعت إلى الإسراعِ بإقرارِ الحزمة التاسعة عشرة من العقوبات. ومن موقع التنسيق الخارجي شدّدت كايا كالاس على أنّ ما يجري “هو الانتهاك الثالث لأجواء الاتحاد خلال أيام”، مع تعهّدٍ بمواصلة دعم الدول الأعضاء لتعزيز دفاعاتها “بموارد أوروبيةٍ”.
إلى جانب لغة التضامن، كان ثمّة فعلٌ عملياتيٌّ لا يُستهانُ به، أقلعت طائرات اعتراضية تابعة لـ”ناتو”، ودعمت فرنسا الأجواء البولندية بطائرات رافال، ووصف الأمين العام مارك روته استجابة الحلف بأنّها “سريعةٌ وحاسمةٌ”، فيما أعلنت متحدثةٌ باسمه الدعوة إلى اجتماعٍ لمجلس حلف شمال الأطلسي بطلبٍ من تالين. وفي الضفة الأوكرانية، جاءت العبارةُ الأكثر تكثيفاً للقلق على لسان وزير الخارجية أندريه سيبيها، الذي رأى في الاختراق “تصعيداً جديداً وتهديداً مباشراً للأمن عبر الأطلسي”، محذّراً من أنّ غياب “ردٍّ حازم” لا يتركُ لروسيا سوى مزيدٍ من “الغطرسة والعدوانية”. كما دعا الرئيس فولوديمير زيلينسكي الحلفاءَ إلى “عدم تضييع الوقت”، مُعلناً أنّه سيحضُّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب على تشديد العقوبات خلال لقائهما في نيويورك.
القراءةُ الأبرز تُظهر منطقاً أقلَّ دراميةً وأكثر حساباً؛ موسكو لا تبحثُ عن اشتباكٍ مباشرٍ مع الحلف، بل تحرّك أدنى عتبة، “المادة الخامسة” التي تُقرّر مبدأ الدفاع الجماعي في الحلف (أي إنّ الهجوم المسلّح على عضوٍ واحدٍ يُعدّ هجوماً على الجميع)، وأعلى عتبة التجاهل. هذه “منطقةُ الظلّ” التي تعملُ فيها أدواتُ الحرب غير المتناظرة؛ مُسيّرات منخفضة الكلفة في مواجهة وسائل اعتراضٍ باهظةٍ، توغّلاتٌ قصيرةٌ ذات أثر إعلامي، ومناوراتٌ مشتركةٌ مثل “زاباد 2025” قرب مينسك تحملُ توقيع رسالةٍ استعراضية. الهدف ليس السيطرة على الأجواء، بل التحكّم بإيقاع الأعصاب في جانبي الحدود، وقياس مرونة الاستجابة ووتيرة القرار في العواصم المعنيّة.
الهدف الروسي إنهاك الاستجابة الأوروبية لا اختبار ذروتها
بهذا المعنى، تُقرأ الانتهاكاتُ الجويةُ امتداداً لتكتيكٍ أوسع يقضمُ تدريجياً حيّز الأمان النفسي والمؤسّسي عند الجوار الأوروبي، ويدفعُ الحكومات إلى إنفاقٍ دفاعي إضافي وإعادة ترتيب أولوياتها الداخلية. الجغرافيا جزءٌ من المعادلة؛ البلطيق ليس مسرحاً هامشيّاً، بل خطُّ تماسٍ يختبرُ قابليّة الردع، ونافذةٌ لقياس “زمن القرار” في بروكسل الممتدّة عبر شبكة العواصم والشراكات. تتقن مؤسّسات الاتحاد لغة الإجماع، لكنّ الفجوة تظهرُ حين ينتقل النقاش من عبارات التضامن إلى معادلات الكلفة – الفعّالية. اعتراضُ ميغ-31 بطائرة أف-35 حدثٌ عملياتيٌّ مهمٌّ، غير أنّه غيرُ مُصمَّمٍ أصلاً لمعادلة أسراب مُسيّراتٍ منخفضة الكلفة عالية الإزعاج. المطلوب طبقات دفاعٍ قصيرةٍ ومتوسّطة المدى، وقدراتُ حربٍ إلكترونيةٍ تشويشية، وشبكات رصد قريبة المدى منخفضة البصمة. والأهمُّ، آليّات قرار أسرع في مسارح الحدود لتقليل كلفة الاستجابة ومنع الإنهاك.
تُدركُ العواصمُ ذلك؛ “جاهزيّة 2030” في المداولات الأوروبية تُشير إلى إنفاقٍ كبيرٍ لتحديث البنى الدفاعية، مترافق مع خطط حمايةٍ مدنيةٍ عملية. تعيد ألمانيا التفكير في الملاجئ والمخزونات، وتروّج فرنسا “عدّة النجاة” المنزلية، ودول شمالية تدعو الأُسرَ إلى تجهيز حاجاتٍ لمدة 72 ساعة. هذه ترتيباتٌ مجتمعيةٌ لاحتمالات الضغط الطويل تحوّل التحمّل المدني جزءاً من الردع، عبر إضعاف مردود التخويف ورفع عتبة الصدمة المجتمعية. في المقابل يطارد منطقُ الكلفة موسكو أيضاً؛ فالحفاظ على وتيرة اختبارٍ مرتفعةٍ يستهلكُ مواردَ ويزيدُ خطرَ الخطأ غير المقصود. لذا تحافظ عمليات الضغط على طابعٍ محسوبٍ؛ اقتحامٌ زمانيٌّ – مكانيٌّ قصيرٌ يُراهنُ على أنّ العواصمَ ستختار حملات إدانةٍ وعقوباتٍ جديدةً، بدل الذهاب إلى إجراءات عملياتيةٍ تغيّر قواعدَ اللعبة. ومع ذلك تبقى احتمالات سوء التقدير قائمةً: خطأ ملاحيٌّ، إفراطُ قائد ميداني، أو قراءةٌ سياسيةٌ خاطئةٌ في لحظةٍ داخليةٍ حسّاسةٍ كفيلةٌ بتحويل “الاختبار” حادثاً مفصلياً.
تظهر الإشارات القادمة من وارسو فهماً بولندياً لهامش الحركة داخل “منطقة الظلّ”. طرح وزيرُ الخارجية رادوسواف سيكورسكي نقاشاً حول “منطقة حظرٍ جويٍّ ضدَّ المُسيّرات فوق أوكرانيا”، قائلاً إنّ “حماية سكّاننا ستكون أكبر لو اعترضنا المُسيّرات خارج أراضينا الوطنية… وإذا طلبت أوكرانيا ذلك فسيكون مفيداً لنا”. تكشف هذه الإشارة اتجاهَين متلازمَين: الانتقال من ردّة فعلٍ داخل الأجواء الوطنية إلى “دفاعٍ متقدّم” عند حافّة المسرح الأوكراني أو داخله بطلبٍ منه، وملامسة حدودٍ قانونيةٍ وسياسيةٍ دقيقةٍ تستلزم غطاءً تعاقدياً واضحاً وقواعدَ اشتباكٍ مُعلنةً لتقليل مخاطر الالتباس.
يجلسُ البيتُ الأبيضُ في مركز المعادلة، لكن الإيقاع الأميركي لا يتزامن دائماً مع توقيت بروكسل. لوّح الرئيس دونالد ترامب بـ”عقوباتٍ كبيرةٍ”، ثمّ قرنها بشروطٍ تتّصلُ بوقف شراء النفط الروسي وفرض رسومٍ على الصين، وهو ما قرأه زيلينسكي بوصفه إبطاءً غير ضروري للضغط داعياً إلى “عدم تضييع الوقت”. تمنح هذه الفجوةُ الزمنيّةُ موسكو مساحاتِ مناورةٍ عمليةٍ، كل يومٍ تتأخّر فيه حزمةٌ أوروبيةٌ أطلسيةٌ مركّبةٌ تكسب “منطقةُ الظلّ” يوماً إضافياً من العمل الهادئ. ومع ذلك تُذكّر عبارةُ وزير الدفاع البريطاني جون هيلي، “التهوّر الروسي أخيراً يُعزّز وحدة (ناتو) وعزمَنا على الوقوف مع أوكرانيا”، بأنّ حسابات الكرملين لا تُقاس فقط بثغرات الخصم، بل أيضاً باحتمال أن يؤدّي الضغط المتكرّر إلى زيادة صلابة البنيان المقابل وتقصير زمن القرار.
تحتاج أوروبا إلى طبقات دفاع قصيرة ومتوسّطة المدى وقدرات حرب إلكترونية تشويشية
ولكي يبدو الردُّ الأوروبي مُجدياً، لا خطاباً متشدّداً فحسب، ينبغي أن يتشكّل في مسارٍ واحدٍ تتكامل فيه الطبقات لا أن تتجاور شعاراتٍ؛ طبقةُ ردع عملياتي قصير الأجل عبر زيادة الكثافة الدفاعية فوق البلطيق وبولندا ورومانيا، بوسائط مُضادّة للمُسيّرات منخفضة الكلفة، وتوسيع الممرّات المرنة للإسناد الجوي المتبادل (أف-16/ رافال/ يوروفايتر) مع قواعد اشتباكٍ واضحةٍ تُقلّلُ مخاطر الالتباس والإشعال غير المقصود، والإبقاء على وتيرة جاهزيّةٍ تُحاكي “روتيناً دفاعياً” لأنّ الهدف الروسي هو إنهاك الاستجابة لا اختبار ذروتها؛ وطبقة ضغطٍ هيكلي متوسّط الأجل بتوجيه العقوبات إلى سلاسل توريد المُسيّرات والذخائر الذكيّة والميكروإلكترونيات وتعزيز أدوات منع الالتفاف عبر طرفٍ ثالثٍ على مستوى المكوّنات والتمويل والنقل، بحيث تنتقلُ “الحزمة التاسعة عشرة” من عنوانٍ سياسي إلى أداة خنقٍ فعلية للشبكات؛ وطبقةُ تثبيت الجبهة الأوكرانية، لا بوصفها “ساحةً بديلةً”، بل بوصفها الجسر الذي يضيّقُ مساحة حركة “منطقة الظلّ”، فكل درعٍ جوّي إضافي حول المراكز والبنى التحتيّة، وكل قدرة تشويش تُسقطُ فاعليّة المُسيّرات، ترفع كلفة الضغط الروسي وتقلّص جدوى الاختبارات عند حدود “ناتو”.
في الضفّة الاجتماعية النفسية، تُراكم ترتيباتُ “جاهزية 2030” أثراً واقعياً؛ تجهيز المنازل لـ72 ساعة، وتحديث أدلّة الطوارئ على مستوى البلديّات والمدارس والبنى التحتية، وتدريب طواقم الاستجابة المدنية. هذه ليست “ردّاً على روسيا” بقدرِ ما هي هندسة مناعةٍ مُجتمعيةٍ تُخفّض عائد التخويف، وتمنع تحوّل كل حادثةٍ صدمةً واسعةَ النطاق، وهو عنصرٌ حاسمٌ في لعبة الأعصاب الطويلة. وباعتقاد كاتب هذه السطور إن قوّةُ الردّ تُقاسُ بمدى دمج العقوبات الذكية مع دفاعٍ طبقي مضادٍّ للمُسيّرات وحربٍ إلكترونيةٍ وقواعد اشتباكٍ واضحةٍ تُضيّق “منطقةَ الظلّ” وتزيدُ كلفةَ كل اختبارٍ لاحقٍ. إن تحقّق هذا المسار انكمش هامش المناورة الروسي، وتراجع مردود الاستفزازات القصيرة، وإن تعثّر، استمرّ “التلاعبُ بالإيقاع” عبر دفعاتٍ متقاربةٍ تُبقي أوروبا في يقظةٍ عالية الكلفة وتعيد ترتيب أجندتها وتُنقص دعمها لأوكرانيا من دون إطلاق رصاصةٍ داخل أجواء “ناتو”.
المصدر: العربي الجديد