استقال غير بيدرسون غير مأسوف عليه

عمر كوش

                                     

مرّت استقالة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى سورية، غير بيدرسون، من دون اهتمام كثير من السوريين، ومن غير أن يبدوا أسفهم عليه، وذلك بعد ما أمضى في مهمته أكثر من ستّ سنوات ونصف السنة، خلفاً لوصيفه ستيفان دي ميستورا، الذي فشل أيضاً في مهمّته بعد سنوات من المماطلة. وحدث الأمر نفسه لسابقيه، الأخضر الإبراهيمي وكوفي عنان.

أرجع بيدرسون أسباب استقالته، التي قدمها خلال إحاطته أمام مجلس الأمن إلى “أسباب شخصية”، لكنّها لم تكن مقنعة للمراقبين، إذ لم تبدُ الاستقالة مفاجئةً، خاصّة بعد أكثر من تسعة أشهر على سقوط نظام الأسد البائد، وبالنظر إلى انتفاء مبرّرات مهمّته التفاوضية والحوارية بين النظام السابق والمعارضة السابقة، التي انحصرت في بذل مساعٍ للتوصّل إلى حلّ سياسي عبر تنفيذ القرارات الأممية، خصوصا القرار 2254، لكنّه لم يتمكّن من تقديم شيء في هذا الخصوص، سوى حصوله على تنازلات من وفد المعارضة السورية السابقة، التي تزعمها الائتلاف الوطني السوري المنحلّ، فيما لم يحصل على شيء من نظام الأسد، وسكت عن ممارسات النظام وعناده ومماطلته وتسويفه وجرائمه.

لم تكن الخبرة الدبلوماسية ما ينقص بيدرسون، إذ بدأ عمله في السلك الدبلوماسي عام 1985، وكان ضمن الفريق النرويجي في مفاوضات أوسلو بين منظّمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل التي انتهت باتفاق في 1993، وتولى إدارة مؤسّسة فافو للأبحاث الاجتماعية حتى 1995، ثمّ شغل منصب مدير قسم في وزارة الخارجية النرويجية في 1997. عيّن بعدها رئيساً لديوان وزير الخارجية النرويجي. وبين 1998 و2003، شغل بيدرسون منصب الممثّل النرويجي لدى السلطة الفلسطينية، ثمّ انتقل إلى العمل في الأمم المتحدة عام 2003، فشغل منصب مبعوث الأمين العام الخاص إلى جنوبي لبنان حتى  2007، ثمّ المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان حتى عام 2008. وبعدها عمل مديراً لقسم آسيا والمحيط الهادئ في إدارة الشؤون السياسية التابعة للأمم المتحدة، ثمّ عينته الخارجية النرويجية مندوباً دائماً لبلاده لدى الأمم المتحدة في نيويورك بين 2012 و2017، ثمّ سفيراً للنرويج في بكين حتى 2018. وفي 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2018 عيّنه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس مبعوثاً خاصّاً له إلى سورية.

تمحور تركيز بيدرسون في أكثر من ست سنوات ونصف السنة على الاستمرار في مهمته، حتى ولو كانت محصلة جهود معدومة النتائج

بدأ بيدرسون مهمته السورية بتسويق مقولة “الأسد انتصر”، مطالباً المعارضة بأن تتقبّل ذلك، وأن تتأقلم مع الواقع والمُستجِدَّات التي أفرزتها موازين القوى العسكرية، وراح يضغط باتجاه أن تسير المعارضة في ركب المصالحة مع النظام الأسدي، والقبول بالعجز الأممي المحكوم بالمماحكات بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي.

عُرف بيدرسون خلال مهمته السورية باستعداده الكبير للمقايضة وبيع المواقف، مقابل الحصول على تسهيلات لتسيير شؤون مهمته، ولو بشكل إجرائي فقط. ولعلّ القبول الذي حظيت به مهمّته لدى الروس والإيرانيين ونظام الأسد، كان مردّه تجنّبه تناول القضية الجوهرية التي حدّدها بيان جنيف عام 2012 وقرار مجلس الأمن 2254، التي كانت تتركّز في تشكيل هيئة حكم انتقالي تملك صلاحيات تنفيذية كاملة، وبدلاً من ذلك راح يتمسّك بتلابيب اللجنة الدستورية، التي ولدت ميّتةً بالأساس، وبناء اجتراح روسي من أجل ضرب مسار جنيف التفاوضي وفق القرارات الأممية. واقتصرت جهود بيدرسون العملية على عقد لقاءات تشاورية للجنة الدستورية في مدينة جنيف السويسرية، بغية التوصّل إلى كتابة دستور جديد، حيث عقدت اللجنة ثمانية اجتماعات، لكنّها لم تتمكّن من كتابة أيّ مادّة دستورية.

فقد بيدرسون الراية التي كان يتمسّك بها، فاضطر إلى تقديم استقالته

تمحور تركيز بيدرسون في أكثر من ست سنوات ونصف السنة على الاستمرار في مهمّته، حتى ولو كانت محصلة جهود معدومة النتائج، الأمر الذي انعكس في تصرّفه موظّفاً أممياً لا يملّ من تكرار إبداء قلقه من تأزّم الوضع، لذلك كان متمسّكاً بمهمّته، حتى إنه حاول في الأسابيع الأخيرة قبل سقوط النظام إعادة إحياء اللجنة الدستورية، فزار دمشق في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، من أجل الحصول على موافقة النظام لعقد الجولة التاسعة للجنة الدستورية. كما بقي بيدرسون متمسّكاً بالقرار 2254 بعد سقوط النظام على الرغم من إدراكه أن مهمّته بلغت نهايتها، وأن عليه الرحيل.

كان الرجل على وعي تامّ بالمواقف اللامبالية بالقضية السورية التي أبدتها الدول الفاعلة، خاصّة الولايات المتحدة، الأمر الذي ساعده على المضي في تسويفاته بالقبول بتقسيم القرار 2254 إلى سلال أربع، سبق أن اجترّها دي ميستورا قبل إعلان فشل مهمّته. لكن تلك السلال بقيت فارغةً، فاستبدلها بسياسة “خطوة مقابل خطوة” إجراءً لحلّ جمود العملية السياسية التفاوضية، من دون أن يضع معايير الخطوات المطلوبة من النظام والمعارضة. لكنّها لم تثمر شيئاً، واعتبرها معارضون سوريون محاولةً لإعادة تعويم نظام الأسد، مقابل تقديمه تنازلات في ملفّات معيّنة تمسّ المعتقلين واللاجئين. وهو أمر لم يقدم عليه النظام أبداً، ومع ذلك بقي بيدرسون رافعاً راية القرار 2254، التي لم تفارقه في جولاته وتحركاته كلّها، وبقي متمسّكاً بها حتى بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إذ فضّل البقاء في منصبه للمساعدة في توجيه الجهود السياسية للأمم المتحدة في سورية الجديدة. لكن يبدو أن التغير السوري الذي حمل تحوّلات جوهرية مع وصول إدارة سورية جديدة، إضافة إلى نيّة الأمم المتحدة نقل مكتب المبعوث الأممي من جنيف إلى العاصمة دمشق، فضلاً عن تقارير تتحدّث عن استصدار قرار أممي جديد يتّجه نحو تجميد القرار 2254… ذلك كلّه أفضى إلى فقدان بيدرسون الراية التي كان يتمسّك بها، فاضطرّ إلى تقديم استقالته.

المصدر: العربي الجديد

تعليق واحد

  1. استقالة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى سورية “غير بيدرسون” غير مأسوف عليه ، الدبلوماسي الأممي السائح لم يقدم لشعبنا خلال السنوات الستة التي قضاها بمهمته سوى الرحلات السياحية، لم يقدم لشعبنا سوى المبعوث الأول كوفي عنان والثاني الأخضر الإبراهيمي المبعوث الثاني,

زر الذهاب إلى الأعلى