اللغة الدينية وديناميات التغير الثقافي والرقمي

نبيل عبد الفتاح

اللغات الإنسانية كائنات حية، تنمو، وتتطور مع كل التغيرات والتحولات فى الطبيعة، والتكنولوجيا والسياسة، والاقتصاد، والفلسفة، والسوسيولوجيا، والأدب، والفنون التشكيلية والسينما والمسرح، والعلوم الطبيعية، ومن ثم هي التى تمنح كل تفاصيل الحياة معناها، وطابعها الاتصالى، سواء أكانت لغة شفاهية أو كتابية. الوظائف الاتصالية للغة هى التى تساهم فى تشكل الهويات –ضمن معطيات وشروط أخرى-، وتضفي المعنى على الجوامع المشتركة لدى أى جماعة، أو مجتمع أيا كانت تعددياته، وتراثاته، وتاريخه، وخصوصياته.

اللغة الواحدة ثمة لغات داخلها، بحسب المجال الذي ينتجها، وتنتجه، وتصوغه فى نسق مفرداتها ومجازاتها وأساليبها اللغوية الشفاهية والكتابية، وعبرها، ومن خلالها يتطور المجتمع فى كل مجالاته المختلفة. التطور اللغوى ومفرداته الجديدة، ومصطلحاته يحفز على تطور المعرفة، والوعي الجمعي، أو إدراك العالم، ومعناه. كل اكتشاف علمى يكتسب معناه من اللغة ومفرداتها الجديدة. من ثم جمود المجتمع وركوده الاجتماعى والسياسى، وتخلفه الاقتصادى، هو جمود للغة التى تتآكل وتهرم مفرداتها الموروثة منذ مراحل نشأتها، وبعض من تطوراتها. تبدو اللغة القديمة الموروثة والهرمة، وكأنها فاقدة لمعانيها ودلالاتها ووظائفها الاتصالية، تغدو لغة ساكتة، صماء!

اللغة الدينية –أيا كان الدين أو المذهب- هى أقدم اللغات النوعية داخل الأنظمة اللغوية، لأنها ارتبطت بمحاولات تفسير الوجود الإنسانى، والحياة والموت وما بعده، سواء أكانت اللغة الدينية علامات ورسوم حول المعابد، أو ارتبطت بالطبيعة، والحكام أشباه الآلهة، إلى الكتابة على المعابد علي نحو ما تم في مصر، وبلاد الرافدين، ومن خلال النحت والتماثيل.

تطورت اللغات الدينية مع تبلور الأديان ما قبل السماوية، ومعها رموزها، وسردياتها الدينية، وتحولت إلى لغة إصطلاحية مع نشأة جماعات رجال الدين، كشراح ووسطاء بين الديانات ومعتقداتها، وطقوسها، وما وراءها. تنامت اللغة الدينية مع الأديان السماوية، ومفاهيم الألوهية، من خلال جماعة الراباى اليهودية وتعدد مذاهبهم وذلك كديانة مخصصة لليهود، وخاصة مع التوراة السبعينية، ومع المسيحية ومفاهيمها ومعتقداتها فى التجسد الآلهى البشرى مع السيد المسيح، وتشكل الكهنة والكنائس، والطقوس، ومعها اللغة الدينية ومحمولاتها المذهبية التى تعددت مع مجمع خلقدونيا – الذي عقد من ٨اكتوبر إلي ١ نوفمبر ٤٥١ م ، والانقسام بين الأرثوذكسية، وبين الكاثوليكية، وتجددت اللغة الدينية مع البروتستانتية، التي ساهمت بفعالية  فى التجديد اللاهوتى والفكرى المذهبى المسيحى، وساهمت كمعتقد ، وتفسيرات، وتأويلات فى تطور الرأسمالية الغربية، ومفاهيم الادخار، والتراكم الرأسمالى.

مع الإسلام ومفهوم وحدانية الله -،تعالى وتنزه -، ومفهوم النبوة، والقرآن الكريم، والسنة النبوية المشرفة، شكلا نقطة تحول كبرى فى اللغة والبلاغة العربية الرفيعة، وفى ذات الوقت تطورت اللغة الدينية مع نشأة المدارس الفقهية، والتفسيرية، والتأويلية، وعلم الكلام –الفلسفة الإسلامية – من خلال اللغة الاصطلاحية الدينية، وتعددت معها التأويلات للنص المقدس، والأحاديث النبوية المشرفة، وضوابط الاستناد إليها من الأحاديث الصحيحة إلى أحاديث الآحاد، والضعيفة..الخ، فى ضوء معايير وضوابط فقهية فى علم الحديث.

من الملاحظ أن السرديات الدينية الوضعية حول النص المقدس والسّنوي ، أدت إلى تفاعلات بين اللغة والبلاغة العربية المتطورة، وبين  اللغة الدينية، نظرا لأن البلاغة والأدب لاسيما الشعر ، والنثر يمثلان حركية اللغة ، ونموها فى كل مرحلة تاريخية، وتطور ثقافة المجتمع.

تجمدت بعض اللغة الدينية الكتابية في بعض المراحل التاريخية، مع تدهور بعض المجتمعات الإسلامية نظرًا لتعقد مفردات اللغة الدينية الأصولية، واعتمادها علي الموروث اللغوى، الذى يعرفه ويتقنه بعض رجال الدين، والبلاغيين، والمتكلمين، والفقهاء.

من ثم حدث تمايز بين هذه اللغة الاصطلاحية، وبين العوام ، الذين غلب على غالبهم اللغة العامية، التى حاول بعض رجال الدين ان يقربوا لهم المفاهيم الدينية، وفروض الدين، والمعتقدات، وسرديات الإسلام عبر هذه اللغات المحكية، مع بعض التناصات مع اللغة المقدسة، والسّنوية فى لغة الدعاة وكبار السن في القري والبوادي.

يلاحظ أن اللغة الدينية، تطورت مع تداعيات صدمة الحداثة، وبدايات النهضة العربية المجهضة، وعمليات التحديث السلطوى للقيم وبناء المؤسسات ، واستعارات بعض من الأفكار الحداثية من الأنظمة القانونية الوضعية الحديثة، ومصطلحاتها التى عربّ بعضها من خلال بعض مصطلحات ومفردات نظام الشريعة الإسلامية .  ساهمت هذه الأفكار والمفاهيم، والنظريات فى تطوير اللغة الدينية لدى كبار مشايخ الأزهر والزيتونة في تونس ، والقرويين في المغرب . تم تطوير بعض من لغة أساتذة أصول الفقه والشريعة والفلسفة الإسلامية من خلال محاولة بعضهم تهجين هذه النظريات على أسس ومعايير الشريعة، والعرف والمصلحة كمصادر للشريعة. ساهم الأرث الصوفي ومدارسه وأدبياته في رفد اللغة الدينية بمصطلحات متميزة ، ومجازات متفردة وتخييلات روحية ، ووصالية وارتقائية ! تجارب المتصوفة ساهمت في خلق لغة صوفية ، من خلال تجاربهم وكتابات بعضهم ، وأقوالهم ، ومريديهم .

في مجال النظم القانونية  الوافدة من المرجع الأوروبي ذهب بعضهم إلى شرعنة الأفكار والمفاهيم القانونية الأوروبية التى لا تتنافى مع أحكام الشريعة الإسلامية، وذلك على الرغم من رفض البعض الآخر لهذا التوجه تحت مفهوم أصالة نظام الشريعة ومصادرها المتعددة ، وسعيهم لربطها بالمقدس تعالى وتنزه، والتغاضى عن أن العرف والمصلحة من مصادر الشريعة ، تغاضي ولايزال بعضهم ان التراث الفقهى، وسردياته التاريخية، هو جزء من اجتهادات كبار الآباء المؤسسين للمذاهب السنية، وفقه الجمهور. هذا الاتجاه ساهم فى تطور اللغة الدينية الفهقية وحركيتها من خلال بعض كبار المجتهدين من الشيخ خليفة المنياوي ، والإمام محمد عبده، وتلاميذه مصطفى المراغى، ومحمود شلتوت، وعبدالمتعال الصعيدى، ومحمد عبدالله دراز، وآخرين مثل خالد محمد خالد.

ساهم عميد الأدب العربى طه حسين فى كتاباته الإسلامية فى تطوير اللغة عموما، والدينية على وجه الخصوص، ومعه محمد حسن الزيات، ومصطفى صادق الرافعى، ومحمود محمد شاكر وآخرين.

حركية اللغة الدينية، مرجعها أيضا التطورات التى حدثت مع الصحف والمجلات التى ساهمت فى تحرير اللغة الفصحى من المفردات المهجورة، وبعض من البلاغة الممتحلة ، ولصالح بلاغة صحفية عصرية، رمت إلى توسيع  قاعدة جماعة القراء، من خلال اللغة السلسة، وعدم الأطناب، وتخصيب اللغة بالمفردات الجديدة، والمعربة عن اللغات الأوروبية المتطورة، وخاصة فى مجال التكنولوجيا والاقتصاد والعلوم الطبيعية، والفلسفة وعلم الاجتماع، والقانون والسياسة، لاسيما فى المرحلة شبه الليبرالية فى مصر، والمشرق العربى، ويلاحظ الدور الذى لعبه بعض اللغويين والتراجمة الشوام من المسيحيين العرب والمصريين، فى ترجمة بعض الكتب عن الفرنسية، وأيضا ترجماتهم للكتاب المقدس.

ساهم تطور اللغة الصحفية، فى تطور الأساليب اللغوية، وأثر على لغة السرد القصصي والروائى، والمسرحى، من الشيق ملاحظة أن تطور تكنولوجيا الاتصال مع ظهور التلفاز، أثر أيضا على اللغة، وأوصافها، ومجازاتها المستمدة من اللغة البصرية، والسينمائية، وقد تأثر بعض من الدعاة، والأكليروس القبطى باللغة التلفازية، والبصرية، فى سرودهم شروحهم الدينية للجمهور، وتناص اللغة البصرية والمشهدية مع لغة السرديات الدينية التاريخية، واللغة المحكية، وذلك للتأثير على الجمهور المسلم، وخاصة العوام ، وتسيطر اللغة الشفاهية العامية، فى الخطب الدينية، والشروح والفتاوى مع بعض من التناص مع بعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية المشرفة؛ وآراء بعض الفقهاء.

أثرت الثورة الرقمية، على اللغة الدينية على اختلاف أنماطها، ويتم توظيف المجال العام الرقمى ووسائل تواصله الاجتماعية من بعض رجال الدين، ودعاة رقميين، ومؤثرين – يوتيوبر -٩، بل وبعض الممثلين والممثلات بهدف الذيوع والشهرة، وسط بعض الجمهور الرقمى المتدين.

اللغة الدينية الرقمية اتسم بعض عنفها اللغوى والمجازى بالاختصار، وبعضها بالنزعة الشعاراتية المثيرة جذبا للتفضيلات، وميل بعض رجال الدين- وبعض العوام الرقميين – إلى استخدام الفيديوهات الوجيزة سعيا وراء التفضيلات للحصول المالى، والشهرة.

بعضهم يميل إلى تقديم آراء وفتاوى مثيرة على غير مألوف السائد تبريرا لبعض السلوكيات، وشرعنة لها، ليس كأجتهاد، وإنما للإثارة، والذيوع.

بعض اللغة الدينية الرقمية باتت سجالية ودفاعية وهجومية، وتميل إلى الاشتباك مع تفاصيل الحياة اليومية، ومع بعض نجوم السينما والغناء..الخ، وذلك سعيا وراء آثارية المنشورات والتغريدات والفيديوهات الطلقة. يرمى بعض العوام الرقميين- وبعضهم ينتمى إلى بعض الجماعات الدينية السياسية والسلفية –إلى الهيمنة على الحياة الرقمية فى ظل انفجار تفاصيل الفضائح الشخصية، واللغة البذئية والسوقية، وفيديوهات اليوتيوبر التى تثير الحواس، وهو يمثل مادة يومية للاشتباك معها ، والاشتغال عليها.

الحياة الرقمية لم تؤدى إلى طرح تحدياتها على العقل الدينى النقلى العام السائد، علي نحو تدفعه إلى طرح أسئلة جديدة، واجتهادات تحفز على تجديد بعض الفكر الدينى، ومن ثم لا تعدو الرقمنة سوى أداة لدى اعقل النقلى، ووحاصرته كما فى الواقع الفعلى داخل ثنائياته الموروثة، والفتاوى المرسلة بينما العالم والعقل الإنسانى، والسياسى فى طور التحول إلى مرحلة ما بعد الإنسان.

المصدر: الأهرام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى