عن خيارات السوريين بعد التحرير في ضوء المؤشر العربي في سورية

حسن النيفي

ثمة ريبةٌ متبادلة بين تيارين حركيين في سوريا، تتأسّسُ مخاوفُ كلٍّ منهما على محدّدات عقدية ينطلق منها كثوابت أساسية إبّان تعاطيه السياسي والفكري مع الآخر. ولئن كانت هذه الريبة قديمة وليست أمرًا طارئًا، إلّا أن مرور البلاد في مرحلة تحوّل مفصلي قد جعل المخاوف لدى الطرفين تتأجج من جديد.

فالإسلاميون الذين وصلوا إلى سدّة السلطة في دمشق من خلال عملية عسكرية أطاحت بنظام الأسد، وهم أنفسهم الذين أمضوا عقودًا في صراع دامٍ مع نظام الأسد، شأنهم في ذلك شأن فئات عديدة غير إسلامية، لن يتردّدوا في تعميم تصوّراتهم وأفكارهم، بل وربّما تمنّوا لو أصبحت تلك الرؤى والتصورات منهجًا ناظمًا لعمل الدولة أيضًا. ومن جهة أخرى، يرتاب نظراؤهم العلمانيون، وهم مزيج من يساريين وليبراليين وشيوعيين قدامى، من سطوة الإسلاميين على السلطة واستفرادهم بها، وكذلك من نزوعهم نحو تعميم منهجهم العقدي، ما يعني الشروع في أسلمة الدولة.

إن المجتمع السوري ذو أغلبية متدينة، ولكنه تديّن وسطي معتدل لا يحول دون قدرته على التماهي مع مفاهيم وأسس الدولة الحديثة، كتأييده لمفهوم التعددية الحزبية وتداول السلطة سلميًا عبر صناديق الاقتراع وفصل الدين عن الدولة.

واقع الحال أن أصل تلك المخاوف المتبادلة إنما ينبثق من تصوّرات سابقة تجلّت في سجالات تمتد إلى عقود، وقلّما استندت إلى مقاربات ميدانية بسبب استمرار نظام الإبادة الأسدي في حكم البلاد طوال أكثر من نصف قرن. إلّا أن وصول أحد هذين الطرفين المتناقضين إلى سدّة السلطة ربما يتيح المجال لبروز سؤال غالبًا ما كان حضوره قويًا في أذهان كثيرين:

هل يرفض الإسلاميون مبدأ التشاركية مع العلمانيين لمجرّد اختلاف عقدي وفكري، أم أن هذا الرفض لا يطول العلمانيين فحسب، بل جميع الألوان الأخرى غير المتجانسة معهم أيديولوجيًا؟ وكذلك، هل يرفض العلمانيون نظام حكم الإسلاميين للأسباب العقدية ذاتها، أم أن رفضهم أو عدم تقبّلهم لسلطة ذات اتجاه إسلامي ينبثق من رفضهم في الأصل لأي شكل من أشكال التديّن في الدولة؟

ستحاول السطور التالية تحاشي الأجوبة التقليدية والمتكررة على السؤالين السابقين، لتتّجه نحو مقاربة أخرى مستفيدةً من استطلاع للرأي أنجزه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تحت عنوان “المؤشر العربي في سوريا 2025″، وربما كان هذا الاستطلاع هو الأول من نوعه منذ عقود خلت. وقد تمّ تنفيذه على عيّنة طبقية عنقودية متعددة المراحل وممثِّلة للمجتمع السوري بمحافظاته وتكويناته الاجتماعية والاقتصادية جميعها، بلغ عددها (3690) من المستجيبين والمستجيبات، وقد تم تنفيذ الاستطلاع خلال الفترة (25 تموز – 17 آب 2025)، وفقًا لما أفاد به المركز ذاته.

ولعل من أهم النتائج التي أفصح عنها الاستطلاع المذكور، بما يخص فكرة هذه المقالة، الأمور التالية:

أولًا – يؤكّد ما نسبته 57% من السوريين أنهم متدينون إلى حدّ ما، أي متدينون وسطيون، مقابل 10% أكدوا أنهم متدينون جدًا، في حين أكد 21% أنهم غير متدينين.

ثانيًا – يرى ما نسبته 59% من السوريين أن سمات التديّن بالنسبة إليهم تتمثّل في الأخلاق والسلوك الإيجابي.

ثالثًا – يؤكّد ما نسبته 58% من السوريين أنهم لا يميّزون في التعامل العام مع المتدينين أو غير المتدينين.

رابعًا – يرى ما نسبته 57% من السوريين أنه من الأفضل فصل الدين عن السياسة، في حين يرى ما نسبته 30% غير ذلك.

خامسًا – 60% من السوريين يوافقون على أن النظام الديمقراطي، على الرغم ممّا له من إشكالات، هو أفضل من غيره من الأنظمة.

سادسًا – 61% من السوريين يرون أن النظام الأفضل في سوريا هو النظام الديمقراطي.

سابعًا – 53% من السوريين لا يرغبون بوجود حزب سياسي في رأس السلطة ولا يتفقون مع طروحاته وتوجهاته، ولكنهم في الوقت ذاته يؤيدون تشكيل أحزاب وتيارات سياسية وطنية وتيارات ليبرالية مدنية وقومية عربية.

فما هي – إذاً – العلمانية التي تناضلون من أجلها وتنعون غيابها عن المجتمع السوري ذي الغالبية المسلمة، التي جعلت بعضاً منكم يتهمها جميعها بالدعشنة؟ هل يتجلّى غياب العلمانية لمجرّد وجود الدين مثلًا؟ أم لوجود شعائر العبادة والطقوس الدينية الأخرى؟

ما نريد الوقوف عنده من النتائج المستخلصة هو أمور ثلاثة:

1- إن المجتمع السوري ذو أغلبية متدينة، ولكنه تديّن وسطي معتدل لا يحول دون قدرته على التماهي مع مفاهيم وأسس الدولة الحديثة، كتأييده لمفهوم التعددية الحزبية وتداول السلطة سلميًا عبر صناديق الاقتراع وفصل الدين عن الدولة.

2- إن مفهوم الديمقراطية ليس غائبًا عن وعي السوريين، بل هو النظام الأفضل لدى نسبة غالبة منهم.

3- إن مفهوم “المواطنة”، وإن لم يكن متداولًا بصياغاته الفكرية أو السياسية في الوسط السوري العام، فإن تجلياته العملية من خلال السلوك والمواقف حاضرة بقوة.

وبناءً عليه، يمكن التوجّه بأكثر من سؤال للتيار الإسلامي الحركي أولًا:

لماذا الحذر تارةً والتردّد والريبة تارةً أخرى حيال مفهوم “الديمقراطية” طالما أن نسبة غالبة من السوريين يرون في العملية الديمقراطية نظامًا مقبولًا، وهم متدينون ملتزمون بعقيدتهم التي لا تحتاج إلى تحصين يقيها شرّ مخاطر خارجية؟ ثم لماذا لا يحتفظ التيار الإسلامي بمنظومته الأيديولوجية (حزبيًا) ولكن لا يجعل منها أيديولوجيا للدولة؟ تمامًا كما تجربة حزب العدالة والتنمية التركي الذي جسّد تجربة رائدة في إدارة الحكم في تركيا، إذ أكّد أكثر من قيادي في الحزب المذكور أنهم لو حاولوا أسلمة نظام الحكم في تركيا لفشلوا فشلًا ذريعًا، ولما استطاعوا أن يحققوا أي منجز ممّا تشهده البلاد التركية منذ العام 2000 وحتى الوقت الراهن، علمًا أن حزب العدالة والتنمية لم يتخلّ عن منظومته الأيديولوجية الإسلامية، بل هي حاضرة وبقوّة، ولكن خارج الأطر الرسمية للدولة، من خلال النشاط الدعوي والأنشطة التي تقوم بها المنظمات المدنية للحزب والتي أثبتت براعةً في تعزيز مكانة حزب العدالة والتنمية في السلطة.

أمّا السؤال الذي يمكن التوجّه به للعلمانيين السوريين على وجه الخصوص:

إذا كان أغلبية السوريين شعبًا متدينًا معتدلًا، ولكن تنحاز غالبيته لخيار الديمقراطية ومبدأ المواطنة وتداول السلطة سلميًا والتعددية الحزبية واحترام عقائد الآخرين، فما هي – إذاً – العلمانية التي تناضلون من أجلها وتنعون غيابها عن المجتمع السوري ذي الغالبية المسلمة، التي جعلت بعضاً منكم يتهمها جميعها بالدعشنة؟ هل يتجلّى غياب العلمانية لمجرّد وجود الدين مثلًا؟ أم لوجود شعائر العبادة والطقوس الدينية الأخرى؟

ما يمكن التأكيد عليه هو أن حرب العقائد وسجالات الأيديولوجيا يمكن أن تستمر عقودًا بل قرونًا، ولا شكّ أنها تستهلك – خلال ذلك – مزيدًا من الطاقات النفسية والفكرية للبشر، ولكن غالبًا ما كانت تُفصح عن فقر فحواها حين يباغتها الواقع بمعطياته الحياتية المنبثقة من واقع الناس وحاجاتهم وأولوياتهم.

وأخيرًا، لا بدّ من التنويه إلى أن جميع التساؤلات التي تطرحها هذه المقالة إنما تستند إلى نتائج أفضى إليها استطلاع للرأي قام به أحد مراكز الدراسات، لذا فهي لا تدّعي القطعية فيما ذهبت إليه، بل هي مجرّد محاولة لطرح أسئلة علّها تحفّز على مقاربات جديدة لقضايا راهنة في سوريا الجديدة.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى