
من يقرأ تاريخ سوريا بعين لا تنخدع باللحظة ولا تنسى المسار، يعرف أن سقوط نظام الأسد لم يكن مفاجأة، بل نتيجة تراكمات وحتمية تاريخية. الأنظمة التي تبني سلطتها على الخوف وتراهن على تحييد الزمن، تنتهي دائمًا على غير ما تتصور. قد يطول عمرها، وقد تبدو عصيّة على الكسر، لكن ساعة التاريخ تدق ولو بعد عقود.
في الثامن من كانون الأول 2024، توقفت عقارب الحكم الأسدي عند آخر دورة لها. لم يكن ذلك اليوم نهاية كل شيء، بل نهاية زمن واحد، وبداية زمن آخر لم تتضح ملامحه بعد.
الثورة حين انطلقت في ربيع 2011، لم تحمل في يدها سوى الصوت، ولم تملك إلا الشجاعة في مواجهة دولة تملك كل أدوات القمع. مرّت السنوات، وتعثر الحلم، وتشظت الصفوف، وتوزعت الساحات بين فصائل وأجندات متناقضة. ومع ذلك، بقي الأثر الأعمق حيًا: جدار الخوف سقط، وصوت السوريين صار أعلى من كل خطاب رسمي، وأهداف الحرية والكرامة والعدالة صارت جزءًا من المعجم السياسي والشعبي، لا يمكن شطبها.
الفرح بسقوط النظام السابق كان طبيعيًا، وربما ضروريًا بعد سنوات من الإحباط، لكنه لا يكفي لصناعة مستقبل.
في ربيع 2011، كانت الحناجر في درعا وحمص وحماة تصدح بكلمات لم يكن يُسمع مثلها قبل ذلك علنًا. لم يكن في الساحات إلا شباب بملابس بسيطة، وأمهات يزغردن من الشرفات رغم الخوف. بعد ثلاثة عشر عامًا، وفي صباح 8 كانون الأول 2024، كان المشهد مختلفًا: شاشات العالم تعرض خبر خروج بشار الأسد من دمشق، والناس بين مصدق ومكذب، يتبادلون الصور عبر هواتفهم كما لو أنهم يريدون التأكد أن ما عاشوه حلمًا صار واقعًا. بين الصورتين، كان التاريخ يكتب فصوله بلا استئذان، يطيح برؤوس لكنه يترك للشعوب مهمة بناء ما بعد.
أما الأسد، فحتى لحظة خروجه، كان قد خسر الجوهر الذي يحاول أي حاكم الحفاظ عليه: سيادة القرار، تماسك المجتمع، واستقرار الدولة. السلطة التي كانت في يده تحولت إلى إدارة أزمة بلا أفق، ومناورة بين حلفاء يقتسمون النفوذ على الأرض. رحيله لم ينهِ هذا الإرث المثقل، بل وضعه على طاولة سلطة جديدة، وجدت نفسها أمام ألغام اقتصادية واجتماعية وأمنية، بعضها انفجر فورًا وبعضها ينتظر لحظة الانفجار.
في السويداء، التي كانت في قلب الحراك المدني، تحولت المطالب إلى اختبار لمقدار ما يمكن أن تتسع له السلطة الجديدة من تنوع واختلاف. في الساحل، الذي كان يومًا خزان النظام البشري والسياسي، بدأ المزاج يتغير مع تراجع الامتيازات وصعود التململ الاجتماعي. وفي شرق الفرات، ظل المشهد معلقًا بين سلطة أمر واقع وقوى كردية ونفوذ خارجي، في عقدة يصعب فكها دون مقاربة وطنية صريحة.
الفرح بسقوط النظام السابق كان طبيعيًا، وربما ضروريًا بعد سنوات من الإحباط، لكنه لا يكفي لصناعة مستقبل. الانتصارات الرمزية تمنحنا الأمل، لكنها لا تبني المؤسسات. والثورات الحقيقية لا تُقاس بعدد الأنظمة التي سقطت، بل بقدرتها على إنتاج نظام جديد يليق بتضحيات من خرجوا ووقفوا وتحملوا.
التاريخ مليء بالأمثلة على ثورات أسقطت الطغاة لكنها أفرزت أنظمة أكثر قسوة أو فسادًا. في رومانيا عام 1989، سقط تشاوشيسكو، لكن الطريق إلى الديمقراطية كان مليئًا بالفوضى والانقسامات. في مصر، تكرر المشهد بعد 2011 حين أُطيح بمبارك، لكن غياب التوافق الوطني سمح بعودة الحكم العسكري بشكل آخر. حتى في لحظات أكثر نجاحًا، مثل جنوب أفريقيا بعد الأبارتهايد، احتاجت البلاد إلى قيادة استثنائية وإرادة سياسية صلبة لتجنب الانزلاق في صراعات داخلية.
المشهد السوري الآن أشبه بفسحة زمنية قصيرة، فرصة تمنحها الجغرافيا والتاريخ معًا. يمكن أن تتحول هذه اللحظة إلى بداية بناء دولة حرّة إذا أُحسن استثمارها، ويمكن أن تضيع سريعًا إذا غلبت المصالح الصغيرة على المشروع الوطني. التاريخ منح السوريين فرصة نادرة، لكنها ليست شيكًا على بياض. اللحظة التي أسقطت الاستبداد من مقعد الحكم قد تعيده بأشكال جديدة إذا غاب الوعي أو ضعفت الإرادة.
التاريخ لا يكتب بلحظة سقوط، بل بما يأتي بعدها. قد يسجل المؤرخون أن 8 كانون الأول 2024 كان يوم النهاية، لكن الأهم أن يكتبوا يومًا ما عن البدايات التي انطلقت بعده.
أحد مشاهد 8 كانون الأول التي ستبقى في الذاكرة، كان ذلك الرجل المسن في إحدى ساحات حلب، وهو يرفع صورة ابنه الذي فقده قبل عشر سنوات، ويقول للكاميرات: “اليوم فقط أشعر أن دم ابني لم يذهب هدرًا… لكني أخشى أن أراه يضيع مرة أخرى”. هذا الصوت البسيط يلخص المعادلة كلها: النصر الحقيقي ليس سقوط الحاكم، بل عدم خيانة دماء الضحايا.
ولذلك، فإن المعركة لم تكن يومًا مع شخص أو عائلة فقط، بل مع البنية العميقة للاستبداد، ومع شبكات المصالح التي تعيش على إطالة عمر الأزمات. إسقاط الأسد كان فصلًا مهمًا، لكنه لم يكن نهاية الرواية. إذا غابت الرؤية، أو فُقدت الجرأة على النقد الذاتي، سنكتشف بعد سنوات أن الثورة لم تنتصر وأن الاستبداد لم ينهزم، بل غيّر وجهه فقط.
التاريخ لا يكتب بلحظة سقوط، بل بما يأتي بعدها. قد يسجل المؤرخون أن 8 كانون الأول 2024 كان يوم النهاية، لكن الأهم أن يكتبوا يومًا ما عن البدايات التي انطلقت بعده. الثورة ليست صرخة في ميدان، ولا صورة لزعيم يرحل، بل مسار طويل من الوعي والعمل والتضحيات. وإذا كان الأسد قد خرج من المشهد، فإن الوطن لم يخرج بعد من امتحانه الأخير.
هذه الأرض التي عرفت القهر والموت، تستحق أن تعرف الحرية والحياة. وعندما نصنع نحن بأيدينا وعقولنا الدولة التي نحلم بها، حينها فقط يمكن أن نقول إن الثورة انتصرت، وإن الأسد لم يكسب، لا في الحكم ولا في التاريخ. وحتى ذلك الحين، يبقى السؤال مفتوحًا: هل سنكتب مستقبلنا بأيدينا، أم سنتركه مرة أخرى يُكتب لنا؟
المصدر: تلفزيون سوريا