
جاء اغتيال الجيش الإسرائيلي مراسلَي قناة الجزيرة أنس الشريف ومحمد قريقع، إضافة إلى ثلاثة مصوّرين من طاقمها، في وقت يستعدّ فيه الجيش لاجتياح قطاع غزّة وإعادة احتلاله، وبالتالي، أرادت حكومة اليمين المتطرّف في إسرائيل، التي لم تعد تحتمل المشهد الإعلامي الخارج من قطاع غزّة، من عملية القتل العلني هذه إرسال رسالة دامية إلى مختلف العاملين في وسائل الإعلام، الذين يحاولون نقل حقيقة ما يجري في حرب الإبادة والتجويع التي تشنّها ضدّ الفلسطينيين في القطاع، بأنهم سوف يلقون المصير نفسه إذا كشفوا جرائمها، وذلك في سياق نهجها الهادف إلى إسكات كلّ صوت يحاول فضح انتهاكاتها وجرائمها المتعدّدة، وتحطيم عدسات الكاميرات التي تصوّرها. لم تكن جريمة اغتيال الشريف وقريقع مصادفةً، أو خطأً عرضياً، بل كانت عن سبق إصرار وتعمّد إسرائيليَّين، لأنهما كانا شاهدَين ينقلان إلى العالم كلّه ما يعانيه عامّة الناس في قطاع غزّة جرّاء حرب الإبادة والتجويع الإسرائيلية ضدّهم، إضافة إلى تسجيل كلّ ما يرتكبه الجيش الإسرائيلي من فظائع ومجازر، وعملا في إيصال أصوات أهل غزّة (المحاصرين المكلومين) إلى العالم أجمع، وشكّلا مصدرَ قلقٍ كبيرٍ لحكومة اليمين المتطرّف في إسرائيلي، بالنظر إلى أنهما أسهما في نقل الصورة الحقيقية، وفي تعرية صورة حربها على الفلسطينيين في قطاع غزّة، وإماطة اللثام عن التعتيم على انتهاكات جيشها وفضح جرائمه الوحشية.
يريد قادة الجيش الإسرائيلي الحفاظ على الصورة التي يصدّرونها عن جيشهم القوي والقادر، تسويقاً لمقولة “الجيش الذي لا يقهر“
ليست جديدة جرائم الاغتيال الإسرائيلي البشعة للصحافيين في قطاع غزّة والضفة الغربية، فسبق أن قتل جيش الاحتلال الإسرائيلي أكثر من مائتي صحافي منذ بدء حرب الإبادة الجماعية في القطاع، وسجّل سابقةً في أكثر الحملات دمويةً ضدّ الإعلاميين في العالم، وتعمّد استهداف أفراد عائلاتهم، وقتل عديدين منهم، وخصوصاً أسرة مراسل “الجزيرة” وائل الدحدوح الذي نجا من الاغتيال بأعجوبة. ولم تتوقّف إسرائيل عند استهداف الصحافيين وعائلاتهم عبر القتل والترويع والاعتقالات، بل قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي مكاتب وسائل إعلام عديدة ومقارّها، فدمّر عشرات المقارّ لوسائل محلية وأجنبية داخل قطاع غزّة. ولم تكتفِ إسرائيل باستهداف الصحافيين الفلسطينيين في غزّة، بل فرضت قيوداً على ما تنشره وسائل الإعلام بشكل عام، إذ اشترطت خضوعها لرقابتها العسكرية قبل نشرها أيّ صورة أو خبر عن وقائع حربها على الفلسطينيين، فضلاً عن عدم سماحها بدخول الصحافيين الأجانب إلى القطاع، وإسكات كلّ من يحاول إظهار قدر من الموضوعية في تغطية وقائع وأحداث حربها، وممارساتها وأفعالها ضدّ الفلسطينيين، إضافة إلى التهديدات التي وجّهتها إلى المراسلين وسائر العاملين في وسائل الإعلام، إذ سبق أن تلقّى كلٌّ من الشريف وقريقع العديد من التهديدات من قيادة الجيش الإسرائيلي، وخاصّة من طرف الناطق باسم جيشها، أفيخاي أدرعي، الذي شنّ هجمات إعلامية متكرّرة على الجزيرة ومراسليها، وحرّضت الحكومة وسائل إعلام إسرائيلية علناً على الصحافيين العاملين في القطاع، ووصفتهم بالمنبر النشط والحيّ، الذي يفضح انتهاكات جيش الاحتلال هناك، وذهبت إلى حدّ تحميلهم مسؤولية تصاعد ردّات الفعل الدولية المندّدة بحرب الإبادة الجماعية، والتجويع الذي بات يهدّد حياة أكثر من مليونَي إنسان من أهل غزّة.
كشفت إسرائيل في اغتيالها الشريف وقريقع وزملاءهما الأسبوع الماضي ما تريد إخفاءه في الأيام المقبلة، في ظلّ استعدادات جيشها لإعادة احتلال قطاع غزّة، إذ تعلم أن جيش الاحتلال سيرتكب المزيد من المجازر، وتريد إخفاءها وعدم ظهور وقائعها إلى العلن، كي لا يشاهد العالم سفك المزيد من دماء الفلسطينيين، خصوصاً في ظلّ تصاعد الأصوات العالمية المندّدة بانتهاكاتها وجرائمها، وبالتالي تحاول حكومة الاحتلال الإسرائيلي مواصلة انتهاكاتها والتعتيم عليها، كي تواصل سرديته الزائفة عن جيشها الأخلاقي، والتخفيف من حدّة الانتقادات التي تواجهها حكومة بنيامين نتنياهو ومحاولتها التقليل من خسائرها العسكرية. إضافة إلى أن قادة الجيش الإسرائيلي يريدون الحفاظ على الصورة التي يصدّرونها عن جيشهم القوي والقادر، تسويقاً لمقولة “الجيش الذي لا يقهر”.
ستبقى عدسات المراسلين جسراً إلى قلوب أهل غزّة، ومرآةً لحقيقة الاحتلال الإسرائيلي
يعود تمادي إسرائيل في سياسة استهداف العاملين في وسائل الإعلام إلى سياسة الإفلات من العقاب، التي تطبّقها حكومات الدول المتحالفة معها، الأمر الذي أفضى إلى عدم وجود رادع حقيقي لها، سواء من مجلس الأمن الدولي أو من المنظّمات الحقوقية والأممية، وحتى مذكّرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحقّ كلّ من بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، لم تسهم في الحدّ من جرائم إسرائيل، والسبب الأساس في ذلك الدعم اللامحدود الذي تتلقاه إسرائيل من الولايات المتحدة، وخاصّة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب شخصياً، وإدارته. وهو ما جعل حكومة اليمين المتطرّف في إسرائيل تضع نفسها فوق القانون الدولي والإنساني، فلم تعد تكترث بتقارير المنظّمات الصحافية والحقوقية التي تفضح سياساتها العدوانية. كما لم تعد تهتمّ بالأصوات التي تدينها وتفضحها وتشجب ممارساتها الدموية، الأمر الذي جعل القتل عنواناً لسياسة دولة، تحكمها منذ نشأتها حكومات تعتبر استهداف الصحافيين الذين يحاولون نقل الحقيقة، والاعتداء عليهم، أمراً عادياً. لذلك، تعوّد جيش الاحتلال والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، منذ سنوات طويلة، على اغتيال الصحافيين (الفلسطينيين والأجانب) الذين يحاولون كشف حقيقة أفعالهم، ويفضحون ممارساتهم وجرائمهم أمام الرأي العام العالمي.
أرادت حكومة الاحتلال من هذه الجريمة اغتيال الصوت والصورة، قبل اغتيال الروح والجسد، لكن صور جرائمها ستبقى شاهدةً على توحّشها وبربريتها، ولن يكون بوسعها محوها من ذاكرة الفلسطينيين، إذ ستبقى عدسات المراسلين جسراً إلى قلوب أهل غزّة، ومرآةً تكشف حقيقة الاحتلال الإسرائيلي، وتفنّد التزييف والتعتيم. وستظلّ أصواتهم تعلو فوق أصوات الصواريخ والمتفجّرات، وتقول للعالم أجمع وُلِد الفلسطينيون هنا، وسيبقون في أرضهم على الرغم من توحّش الغزاة.
المصدر: العربي الجديد