
أثبتت الأحداث (وهو ما كنا نقوله منذ 8 أكتوبر 2023)، أن بنيامين نتنياهو وحكومته يكذبان، ويواصلان الكذب من دون توقّف بشأن أهداف الحرب الهمجية على قطاع غزّة، وحربهما الاستيطانية المتصاعدة على الضفة الغربية والقدس. وعندما أعلن نتنياهو وحكومته، في 8 أغسطس/ آب الجاري، نيّة تنفيذ احتلال كامل القطاع، ومواصلة حرب الإبادة الدموية، فإنهما كشفا حقيقة ما جرى في مفاوضات وقف إطلاق النار التي نُسفتْ بقرار أميركي – إسرائيلي، إذ لم يكن الجانب الفلسطيني العائق، بل ظن الوسيطان العربيان أنهما قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى اتفاق، ليتضح أن كلّ ما أراده نتنياهو كان استرداد عشرة أسرى إسرائيليين من دون مقابل، ومن ثمّ استئناف الحرب حتى قبل انقضاء فترة وقف إطلاق النار، ولم يكن في نيّته وقف الحرب في أيّ حال. ما حدث أثبت أن نتنياهو وحكومته كانا يكذبان طوال الوقت، وأن أولويتهما لم تكن استرداد الأسرى الإسرائيليين الذين سيعرّضون الآن حياتهم للموت مع توسيع العمليات العسكرية، وأن هدفهما لم يكن مجرّد القضاء على “حماس” واستبدالها، كما لم يكن هدفهما تحقيق الأمن المزعوم، بل كان الهدف منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، شنّ حرب إبادة وتجويع جماعية ضدّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، وتنفيذ التطهير العرقي الكامل لكلّ سكّان القطاع. كان الهدف ضمّ الضفة وتهويد كامل الضفة الغربية وقطاع غزّة، والذي يواجه خطراً وجودياً اليوم هو الشعب الفلسطيني وليس إسرائيل كما يدّعي نتنياهو.
لا بدّ من إدراك أن الشعب الفلسطيني لا يواجه حرب إبادة خطيرة فقط، بل أيضاً حرباً وجوديةً، تهدّد بالفناء بقاءه شعباً وكياناً
منذ دخوله عالم السياسة، كانت لنتنياهو رؤية وهدف واحد، القضاء على الوجود الفلسطيني بكلّ أشكاله في جميع أرض فلسطين التي يعتبرها أرضاً يهودية، ولليهود فقط. ولكنّه عرف أن عليه أن يتقن كلّ فنون الخداع الكلامي والبروباغاندا، وكلّ أنماط الكذب ليصل إلى هدفه. وها هو يكذب مرّة أخرى، وهو يبرّر احتلال غزّة وتطهيرها عرقياً، بالحديث عن استقدام أطراف عربية لإدارتها بغرض افتعال صدام فلسطيني مع أطراف عربية يسعى لإيقاعها في حبائل دسائسه. منذ اللحظة الأولى للعدوان، قلنا إن هدف نتنياهو وجيشه ترحيل سكّان قطاع غزّة، بعد تدمير بيوتهم ومستشفياتهم ومدارسهم ومؤسّساتهم بالقصف والقتل، إلى الجنوب، إلى أسوأ وأكبر معسكر اعتقال عرفته البشرية، بين محوري موراج وصلاح الدين (فيلادلفي) في منطقة رفح التي دمّرها الاحتلال، ومن ثمّ السعي لترحيلهم من معسكر الاعتقال إلى خارج فلسطين. وإذا كان نتنياهو قد فشل في تحقيق ذلك، فلأنه واجه مقاومةً لم يستطع كسرها، وشعباً عظيماً مصمّماً على البقاء في وطنه وعدم الرحيل، رغم الجوع والآلام والقتل والظروف التي لا يتحمّلها بشر. ولأن الفلسطينيين من سكّان قطاع غزّة، وأغلبهم ممّن هُجِّروا من قراهم ومدنهم عام 1948، يعرفون أن الرحيل يعني فقدانهم كلّ ما يملكون، وكلّ ما بنوه وحقّقوه طوال حياتهم، ويعني كذلك فقدانهم كرامة العيش في وطنهم.
أغرب غباء استراتيجي لقوة استعمار، لا تريد أن ترى ظلمها وبطشها سبب مقاومة الفلسطينيين له
لم يكن نتنياهو ليتجرّأ على نسف مباحثات وقف إطلاق النار، وعلى خرق الاتفاق السابق، وفرض حصار، وتجويع رهيب، على قطاع غزّة، ولم يكن ليتجرّأ على كشف موقفه وإعلان نيّته احتلال القطاع بالكامل، ومن ثمّ ترحيل كلّ سكانه، ومن ثمّ تنفيذ التطهير العرقي… لولا دعم إدارة ترامب المطلق له، ولولا الضوء الأخضر الذي منحه إيّاه ترامب، ولولا الضعف المريع والمحزن لردّات الفعل العربية والإسلامية على جرائمه. وعلى الصعيد الفلسطيني، لم يبق مكانٌ للأوهام، وإسرائيل تحاول القضاء على كامل الوجود الفلسطيني في غزّة، وتضمّ الضفة الغربية قطعة قطعة، وتضع سكّانها في ظروف اقتصادية بالغة القسوة. إذ لا بدّ من إدراك أن الشعب الفلسطيني لا يواجه حرب إبادة خطيرة فقط، بل أيضاً حرباً وجوديةً، تهدّد بالفناء بقاءه شعباً وكياناً، وتهدّد بفقدانه وطنه إلى الأبد، وتهدّد أبناءه وبناته بفقدان كلّ ما بنوه وعملوا لأجله جيلاً وراء جيل. ما يخطّط له نتنياهو نكبة أكبر من نكبة 1948، بل هو استكمال لأهداف تلك النكبة بإزالة الوجود الفلسطيني برمّته من أرض فلسطين.
سيوصم هذا الجيل بالعار إن لم ينجح في إيجاد قيادة وطنية موحّدة على استراتيجية وطنية كفاحية لمقاومة هذا الخطر الوجودي، وفي إيقاظ ما تبقّى من وعي للغارقين في أوهام الماضي، وفي صراعات الماضي وخلافاته، بما في ذلك الصراع على سلطة لم يعد لها وجود إلا في الأوهام، بعد أن أعاد نتنياهو هيمنة الاحتلال في الضفة والقطاع، وجرّد السلطة من كلّ ما تبقّى لها من سلطة. ولكن ما لا يفهمه (ولن يفهمه) نتنياهو وداعموه، أو من يتهرّبون من مواجهته، أن ما من قوة في هذه الكون قادرة على كسر إرادة الشعب الفلسطيني، أو إجباره على التخلّي عن تمسّكه بوطنه الذي لا بديل منه… فلسطين. ولعلّنا نشهد أغرب غباء استراتيجي لقوة استعمار في التاريخ، التي لا تريد أن ترى أن ظلمها وبطشها هما سبب في مقاومة الفلسطينيين لها، وأن قتل عشرات الآلاف وترحيل الملايين لن يؤدّيا إلا إلى مزيد من مقاومة ظلمها، كما أدّى (ويؤدّي) إلى انحدارها، بشهادة كثيرين من قادتها، إلى مهاوي العزلة، لتغدو كياناً منبوذاً في العالم بأسره.
المصدر: العربي الجديد