
حدث، في حرب الأفغان ضدّ الاحتلال الروسي – السوفييتي، شيءٌ فريدٌ من نوعه، إذ دعمت الولايات المتحدة بشكل مكشوف المقاتلين الجهاديين، ووفّرت لهم الغطاء الإعلامي والسند السياسي عبر تشجيع عمليات تفويج المتحمّسين للقتال من الدول العربية والإسلامية. التقطت دول إسلامية كثيرة تلك الإشارة الخضراء، فبات زعماؤها يشجّعون هم أيضاً على الانخراط في “الجهاد” ضدّ الشيوعيين. ذلك الخطاب، المسنود ببرامج دعائية وخطب مؤثّرة كان ينجح بالفعل في تفويج الآلاف من الراغبين في حماية أفغانستان من السقوط في يد “الملاحدة”، كما أنه كان مفيداً جدّاً، بخاصة بالنسبة إلى الزعماء، الذين أرادوا (بتوظيف الخطاب عن الجهاد وضرورة الدفاع عن المسلمين) أن يكسبوا تعاطف شعوبهم، التي ظنّت وهلة أن قيادتها حريصةً حقّاً على حماية “الأمّة”.
سيأخذ عامّة الناس وقتاً قبل أن ينتبهوا إلى أن كلّ ما حدث لم يكن إلا توظيف الأميركيين حماس الملايين من المسلمين، الذين لم يدّخروا وسعاً في التبرّع بأموالهم، ولكن أيضاً بأنفسهم، في سبيل ما اعتبروها قضيةً عادلةً. ما كان يحدث في الواقع استغلال ذلك الحماس الإسلامي من أجل تحقيق هزيمة المشروع السوفييتي ووقف امتداداته، التي كانت تضرّ بالمصالح الأميركية.
تفسّر نظرية المغناطيس لماذا يتجاهل الغرب في كثير من الحالات صعود وتنامي الإرهابيين، وهو ما كان واضحاً في الحالتَين العراقية والسورية
كانت تلك الحرب مفيدةً للأميركيين من جهة أخرى، فقد أكدّت أن خطاب الجهاد الإسلامي فاعل، وأن أعداداً كبيرةً من المسلمين يسهل أن يُستمالوا ويُقنعوا بالتوجّه إلى حلبات القتال، ولو كانت نسبة الانتصار المتوقّعة قليلةً، بل لا يعتبر أولئك الهزيمة (أو الموت) أمراً سالباً، بل يرونه استشهاداً وبطاقة دخول حياة أفضل. سرعان ما انتبه الأميركيون إلى أن الفكر الذي رعوه ودعموه بشكل تكتيكي، خدمةً لغرض محدود، متعلّق بالمنافسة التي فرضتها الحرب الباردة، خطر عليهم على المستوى الاستراتيجي، وأن المؤمنين به، بخاصّة الذين جرّبوا بالفعل أجواء الحرب، وتمرّسوا جيّداً في القتال، ربّما يتحوّلون قنابل موقوتة موجّهة إليهم. من هنا بدأ التفكير في ما يمكن أن نطلق عليه اسم “نظرية المغناطيس”، وهي الفكرة المبنية على تجميع أكبر عدد من الجهاديين المتحمّسين في بقعةٍ معيّنة كأفغانستان، ودفعهم إلى القتال بلا استعداد، ما يؤدّي إلى مقتل أكبر عدد منهم. سيساعد ذلك المغناطيس على تكوين قاعدة بيانات كبيرة فيها أسماء جميع المتحمّسين الخطرين. ستكون هذه المعلومات مفيدةً للأميركيين، وكذلك للدول التي جاءوا منها، التي ستتعامل معهم بحذر عقب عودتهم، فيما سيبدأ بعضها في اختلاق أسباب من أجل التنكيل بهم للوقاية من التهديد المحتمل، الذي يمكن أن يسبّبوه.
فضح احتلال أميركا كلّاً من العراق وأفغانستان كلّ الدعايات السابقة، المتعلّقة بالغزو السوفييتي، فعلى الرغم من التشابه بين الاحتلالَين، صار الإعلامَان المحلّي والدولي، اللذان وصفا المقاتلين والمدافعين الذين يحاولون صدّ الاحتلال بأنهم جهاديون أبطال، يصفان أعمال المقاومة ذاتها بالإرهاب، فيما بدأت كلمة “الجهاديين” تحمل ظلالاً شديدة السلبية وأقرب إلى الاتهام.
ربّما تعود تجربة المغناطيس إلى تاريخ أبعد، إذ حدث في أواسط القرن الماضي أن تجمّعت أعداد كبيرة من المقاتلين المتطوّعين والفدائيين، الذين كانوا يرغبون في صدّ الاحتلال الصهيوني لفلسطين. كان ذلك التجمّع برعاية دولة عربية أيضاً، وكان المفترض أن يكون متناسقاً مع هجوم الجيوش النظامية، لكن الأمر بدا، في نهاية المطاف، أقرب إلى انتحار جماعي لأولئك الفدائيين، الذين تُركوا من دون مظلّة دفاعية في مقابل قوات إسرائيلية مدرّبة، وذات قوة وعتاد متقدّم. وفي أثناء غزو العراق (2003)، وازدياد أعمال المقاومة الجهادية ضدّ الاحتلال، استعاد الأميركيون منطق المغناطيس، وابتكروا ما عرف في أدبيات الدفاع الأميركي بـ”استراتيجية ورقة الذباب”، التي لمّح إليها محافظون يمينيون، أبرزهم دونالد رامسفيلد، الذي قال إن من الأفضل جمع الإرهابيين وإشغالهم في الساحة العراقية بدل أن يتفرّغوا لمهاجمة الغربيين في ديارهم، وهي فكرة مشابهة لفكرة طرحتها مؤسّسة “راند” الاستخباراتية الأميركية، وتعلّقت بفتح مسارات للإرهابيين، وجعلهم يكبرون ثمّ ينزفون ببطء، حتى يُتخلَّص منهم.
أعلنت مجموعة البراء بن مالك (الجهادية)، نيّتها وضع السلاح لقطع الطريق على استراتيجية الاستنزاف الأميركية
يمكن أن يتحقّق ذلك النزف الطويل ببساطة بالمساعدة في فتح أبواب صراعاتٍ لا تنتهي، وحروب ممتدّة وواسعة. تكون مثل هذه الحروب تكون قادرةً وكافيةً (في أغلب الأحيان) لاستنزاف رأس المال المادّي والبشري. اليوم نجد صدى نظرية المغناطيس في دول عدّة أبرزها سورية والعراق ومالي وغيرها من البقاع، التي باتت تجذب المتطلّعين إلى “الجهاد”، أو إلى إقامة دولة يوتوبيا إسلامية، على غرار الحلم الذي كان يبشّر به تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). تفسّر هذه النظرية أيضاً لماذا يحدث في كثير من الحالات أن يتجاهل الغرب صعود وتنامي الإرهابيين، وهو ما كان واضحاً في الحالتَين العراقية والسورية، إذ بدا وكأنّ القوات الأميركية (وغيرها) غير جادّة في كبح تمدّد هذه الجماعات.
في بعض الأماكن، كالساحل الأفريقي، يصبح وجود هذه الجماعات الفوضوية، التي تدخل صراعاً عبثياً ولانهائياً مع الجيوش الرسمية، مفيداً، فهو يساهم من جهة في التخلّص من المهووسين المتطرّفين، كما أنه يساهم من جهة أخرى في إضعاف الجيوش المحلّية، وبالتالي دول المنطقة، التي سوف تكون في حاجة دائمة لداعميها الغربيين. حرب السودان ليست بعيدةً من ذلك كلّه، فساهمت الحركة الإسلامية في حشد أعداد من الشباب الإسلاميين والجهاديين للمشاركة في المعركة إلى جانب الجيش.
خلال الحرب، قُضي بالفعل على أعداد كبيرة من أولئك المتحمّسين، الذين اندفع غالبهم إلى ساحات القتال من دون خبرة أو استعداد كافٍ. هنا يمكن أن نفهم إعلان مجموعة البراء بن مالك، أهم المجموعات الجهادية، نيّتها وضع السلاح والاكتفاء بالعمل المدني، في محاولة لقطع الطريق على استراتيجية الاستنزاف.
المصدر: العربي الجديد