
التفكير أبرز ما يميز الوجود الإنساني، إذ يسبق الفعل كالحمل الذي تتلوه الولادة، ويبقى مرتبطاً به ارتباط الجوهر بالأثر. فعندما يسبق التفكير الفعل، ينير الطريق ويساعد على تناغم الوسيلة مع الهدف، وعلى التوفيق بين الممكن والمأمول. إنها لحظة وعي تمهّد للحركة وتنقّي الدوافع من اندفاع فج، وتفتح آفاقاً للفعل المتبصّر. أما التفكير بعد الفعل، فهو مرآةٌ نرى فيها انعكاس أثر ما فعلناه، ونقارن بين ما أردناه وما تحقق، وبين الممكن والمتاح. من هنا، يصبح التفكير أكثر من مجرّد تمرين ذهني؛ إنه أداة لإعادة تشكيل الفعل، وتحديث الرؤية، ولمنح الممارسة معناها.
التفكير فعلٌ تأمليٌّ بطبيعته، يقوم على التروّي والبصيرة، ويتناقض تماماً مع منطق الـ”فيزا كارد” الذي تجسّده عبارة “اشترِ الآن وادفع لاحقاً”، حيث يقدّم الفعل على الإدراك، ويؤجّل الثمن كما لو أن العواقب يمكن تجاهلها. في هذا النمط، تُختزل القرارات إلى ردات فعل سريعة، منفصلة عن تخطيطٍ بعيد المدى، ويستبدل الوعي بالنتائج باندفاع لحظي يفتقر إلى مساءلة. هذا يحوّل الفعل إلى لحظة عمياء، تنقطع عن أدوات التقدير والتوازن، وتُقصي التفكير عن مهمته حارساً للنيات ومرشداً للممارسة.
عند تناول التجربة الفلسطينية من هذه الزاوية، نواجه مفارقة مؤلمة، ففي 1993، حين قرّرت القيادة الفلسطينية الانخراط في مسار “أوسلو”، لم يكن القرار ثمرة نقاش معمّق، بل مقامرة سياسية قائمة على التجريب: لنمض في هذا الطريق، ثم نرى ما سيحدُث! لم تطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة الاتفاق، ولم يحلّل بنيانه أو تبعاته بعيدة المدى. سيطرت الذهنية الظرفية وغابت الرؤية العميقة، فسبق الفعل التفكير، وتقدّمت المغامرة على التدقيق التاريخي، ما جعل المشروع خالياً من أدوات التقدير والمراجعة منذ البداية.
تمدّدت شروخ “أوسلو” تدريجيا، وانفجرت تبعاتها في وجه الجميع، ليس فقط بسبب تعنّت الطرف الإسرائيلي وتنصّله من التزاماته، بل أيضاً نتيجة افتقار البنية الفلسطينية إلى عقل مؤسّساتي قادر على الاستشراف وإدارة المتغيّرات بحكمة. رغم مرور أكثر من 30 عاما، ظلّ المشهد الفلسطيني أسير الذهنية نفسها: ضيق الأفق، آنية التقدير، مثقل بالمراهنات المرتجلة، وعاجز عن بناء تقاليد تفكير نقدي تعيد موضعة التجربة في سياقها التاريخي وتفكك اختلالاتها.
تتجلى هذه المعضلة اليوم بحدّةٍ أكبر، وسط الكوارث المتتالية التي يتعرّض لها الفلسطينيون، من غزّة إلى الضفة الغربية والشتات. أمام هذا الزلزال الوجودي، تبدو النخبة السياسية متخبّطة، بلا بوصلة فكرية واضحة، عاجزة عن الإجابة على أسئلة مصيرية: أين نحن اليوم؟ كيف غيّرت هذه الحرب الاستئصالية الفلسطينيين؟ ما مصير الشعب وقضيته؟ وكيف يخرج من هذا النفق المظلم؟ أسئلة ثقيلة لا تجد من ينكبّ على معالجتها بعقل استراتيجي متبصّر يجاوز اللحظة، ويصعد إلى أفق الحل التاريخي.
في ظل هذه الكارثة الوطنية، تبرز الحاجة الملحّة لإعادة طرح أسئلةٍ بنيويةٍ لطالما جرى تجاهلها لصالح انشغالات آنية. هل تملك المؤسّسات الفلسطينية (ولا سيما منظّمة التحرير)، القدرة على التفكير المنظم والمتبصر؟ هل تعمل ضمن وعي جمعي يدرك موقعه ودوره في لحظة تاريخية حاسمة؟ أم أنها بُنى تدور في حلقة مغلقة، بلا إدراك ذاتي، ولا استعداد لمراجعاتٍ جذريةٍ تعيد تعريف مسؤولياتها ووظيفتها؟ ليس المقصود بالتفكير هنا مجرّد إعداد خطط أو تنفيذ برامج، بل إنتاج وعي استراتيجي يستوعب الذات والواقع والمآلات المحتملة، ويقود إلى قراراتٍ تجسّد رؤية وطنية جامعة، لا مجرّد تكيّف وظيفي مع واقع مفروض. لا يولد هذا النوع من التفكير من فراغ، بل يحتاج شروطاً ما زالت غائبة في البنية المؤسّسية الفلسطينية.
ما دام الكادر يعامل بوصفه منفذاً لا مشاركاً، ستظلّ البنية تدور في حلقة مفرغة، تعيد إنتاج عجزها باسم الانضباط
هناك خمسة عناصر مركزية يفتقر إليها الواقع الراهن: أولها غياب مشروع وطني موحّد وملزم. منذ “أوسلو” تراجع التصوّر التحرّري الشامل ليحلّ محله منطق البرامج المؤقتة والمجزّأة. تحوّلت المؤسّسة من أداة نضالية ضمن مشروع تحرّري إلى بنية تدير حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال. أفقد هذا التحوّل المؤسّسة معناها السياسي، وأدخلها في حالة دوران بلا أفق، لأن التفكير الاستراتيجي يفترض وضوح الغاية. لا يمكن لمؤسّسة أن تستبصر طريقها وهي تفتقر إلى هدفٍ محدّد. لذا، أي محاولة لإعادة ترميم الوعي المؤسّسي يجب أن تبدأ بإعادة تعريف الغاية السياسية وصياغة بوصلة تاريخية واضحة: ماذا نريد كقضية، كشعب، وكحركة تحرّر؟
ثانياً، استمرار الارتباط العضوي بين المؤسّسة والفصيل. تحوّلت الفصائل إلى أدوات بيد نخب تنظيمية مغلقة، حرَمت المؤسسات من بعدها الوطني الجامع لصالح الولاء الحزبي والانضباط التنظيمي. في ظل هذا، يصعُب على المؤسّسة أن تمارس التفكير الحر، فهي خاضعة لهيمنة سياسية ضيقة، وتفتقر إلى استقلال حقيقي. يبدأ تحرير الفكر المؤسّسي بفكّ هذا الارتباط وإعادة بناء المؤسّسة على قاعدة استقلال ومساءلة شعبية.
ثالثاً، لا ينشأ التفكير من مجرّد وجود خطط وبرامج، بل من خلال بيئة داخلية، تحفّز على فهم الواقع، تستشرف الاحتمالات، وتطرح بدائل. تحتاج المؤسّسة إلى عقل حي، يربط القرار بالمعرفة، عبر دوائر ووحدات تفكير متبصّر ومراجعة مستمرّة. كما أن بيئة التفكير تزدهر حيث تسمح بثقافة الاختلاف، وتشجّع النقد البناء، وتحترم تعدّد الآراء. مؤسّسة تجرّم الاختلاف وتعتبره خروجاً عن الصفّ تظل عاجزةً عن التعلم والتطوّر.
رابعاً، الانفصال المتزايد بين المؤسّسات وقواعدها الاجتماعية. أصبحت كيانات فلسطينية كثيرة تدار من الأعلى، وتخاطب جمهوراً غائباً، معتمدة على دعم خارجي أو غطاء أمني، لا على تمثيل شعبي حقيقي. هذا الانفصال يقضي على توليد عقل مؤسّسي حي. تمرّ استعادة هذا العقل عبر إعادة ربط المؤسّسة بالناس عبر المشاركة الحقيقية، والاستماع الصادق لهمومهم، وتوسيع دور الشعب في صنع القرار بدلاً من احتكاره.
وحده التفكير يستعيد جوهر الفعل، ويضمن الاتساق بين الهدف والوسيلة، ليفضي إلى أفق لا يُملى من الخارج
أخيراً، لا تستعيد المؤسّسة نبضها ما لم يُعَدِ الاعتبار للكادر باعتباره عقلاً مفكّراً لا ذراعاً منفذة، فحين يختزل الإنسان إلى وظيفة تنفيذية، يقصى العقل، وتطفأ شرارة المبادرة، وتتحوّل المؤسّسة إلى هيكل جامد لا يحرّكه سوى الروتين. وما دام الكادر يعامل بوصفه منفذاً لا مشاركاً، ستظلّ البنية تدور في حلقة مفرغة، تعيد إنتاج عجزها باسم الانضباط، وتعلي من الولاء على حساب الكفاءة والتفكير الحر. تبدأ إعادة بناء العقل المؤسّسي بتحرير المؤسّسة من سطوة التعليمات، ومنح كادرها مساحة للتفكير والمساءلة والاقتراح، فالمؤسّسة لا تنهض بالخوف من الخطأ، ولا بالانضباط الأعمى، بل بثقافة تثق في عقول كادرها، وتشجّع على النقد الخلاق، وتحمي شجاعة الاجتهاد. ذلك أن الطاعة قد تُسيِّر يوماً، لكنها لا تصنع مصيراً، والصمت قد يُؤَمِّن لحظة، لكنه لا يبني مستقبلاً.
في زمن تضطرب فيه المعاني تحت وطأة التكرار، وتُستنزف الطاقات في إدارة اللحظة بدل تجاوزها، لا يعود التفكير ترفاً مؤجّلاً، بل يتحوّل إلى فعل مقاومة ضد التلاشي الصامت. ليست الأزمة في الأدوات التي نمسك بها، بل في البوصلة التي توجّهها، والمعنى الذي يحولها من أنماط ميتة إلى أدوات فعل واعٍ. ولا تكمن المعضلة في البنى كما تبدو، بل في قدرتها على تأمل ذاتها ورؤية موقعها في حركة التاريخ لا في مرآة اللحظة. فحين ينقطع فعل المؤسّسة عن رؤيتها، تفقد نبضها، ويتحوّل الأداء إلى طقوس خاوية، وتنزلق القضية إلى الهامش، ولو بقيت ثرثرة على الألسن. وحده التفكير يستعيد جوهر الفعل، ويضمن الاتساق بين الهدف والوسيلة، ليفضي إلى أفق لا يُملى من الخارج، بل ينبع من التوق إلى التحرّر والبداية من جديد.
المصدر: العربي الجديد