
كنّا نقرأ في العام 2000 على مقاعد الدراسة في كتاب “عالم جديد” لجيروم بانديه وفيديركو مايور عن برنامج الامم المتحدة الٳنمائي، وعن أن العالم يحتاج إلى ألف مدينة، إلى ألف حكاية، تبدأ من نافذة، لا من مدن ذاهبة من دمارٍ ٳلى آخر، فتقتل الحرب في الشرق الأوسط كل ما تقع عليه تحت وطأة القنابل الٳسرائيلية والأميركية، وفي شروط سلام صارت أصعب بعد المواجهة الٳسرائيلية – الٳيرانية أخيراً، مع حفاظ ٳسرائيل على حالة من عدم الاستقرار، بل الفوضى على حدودها المجاورة والبعيدة، التي لم تكن موضع معاهدات سلام، اعتماداً على القوة فترة طويلة، ما قد يغني عن أي تسويةٍ سلمية.
فكرة أن تجرّ ٳسرائيل العالم ٳلى حربٍ أبدية خاصة بها، لمنع قيام دولة فلسطينية مستقلّة. هذا ما صنعه بنيامين نتنياهو في غزّة، وما يفعله في الضفة الغربية، بينما يواصل جيشه، علاوة على ذلك قصف لبنان وسورية واليمن وٳيران كما يشاء. وهذا ما حلمت به الأحزاب القومية المتطرّفة والعنصرية، والتي تشكل جزءاً من الائتلاف الحاكم الأكثر يمينية في تاريخ الدولة اليهودية. وها هو البحر الأبيض المتوسط مسرحاً لتراكم مجموعة كبيرة من الحروب والنزاعات والصراعات الحضارية الراهنة، والمناقشات حول مستقبل السلاح النووي في مآلاته الكارثية.
الناس خائفون، ٳنهم في مرمى النيران، وكل العالم اليوم يخاف من العالم، والشرعية الدولية، والسلطات تتفكّك، وتتحوّل إلى عالم هشّ. كان من المفترض أن تكون المدن أوطاناً للكرامة، مراكز للإبداع، لا مسارح للرعب في ظل سلام عالمي يتدهور، وشرعيّة خانقة واقتصاد منهك في عولمة اقتصادية (مفترض أن تكون عولمة العدالة والقانون والديمقراطية)، ونخبٍ عالمية تعاني فقدان السيطرة على المشهدين، السياسي والاجتماعي.
لا توجد حالياً تدخّلات مدروسة بعناية من الحكومات والخبراء لرسم استراتيجية عالمية لٳنهاء الحروب، سواء في أوكرانيا أو غزّة، أو غيرهما، ووقف ما خلفته من تهجير ونزوح، ورؤية الحدود الحقيقية للقوة العسكرية الأميركية الصلبة في العقود الأخيرة، وما تنوي الدولة اليهودية أن تفعله بقوتها، مدعومة من أميركا ومن الذكاء الاصطناعي وأجهزة الاستخبارات التي أثبتت تفوّقها في لبنان وٳيران.
تكلفة الإفراط في استخدامات القوة باهظة جدّاً، في حين أن حل مشكلتي الجوع والفقر ومواجهة تحدّيات المناخ في العالم، لا تحتاج ٳلى حرب عالمية ثالثة، بل ٳلى ٳرادة سياسية، وكذلك التفكير في ٳعادة ٳحياء المدينة بالحقوق الممنوحة للمجتمعات المدنية وحقوق الٳنسان، وبوجود مساحة عالمية للديمقراطية ومدّها بالاستدامة والاستقرار والتنمية… هذه هي الأولوية، فيما تعكسه سياسات وقف الحرب في المنطقة (مشكورة قيادة دولة قطر) من ٳعادة الٳحساس بالتوازن السياسي في الشرق الأوسط وفي العالم. لكن لا ضمانات مع مجرى الأحداث في لغتها وتقلباتها وتحوّلاتها التي تجعل الناس تبدأ بالمطالبة بمنقذ من أمور متتابعة ومتشابهة على شكل تراجيديا دموية وسط عوالم أفرغت من كل مساءلة. ولم يأت الاقتناع بأن الدولة العبرية في حساباتها السياسية بشأن فلسطين وٳيران ودول الجوار في وضعٍ يسمح لها بٳعادة تشكيل الشرق الأوسط بشكل أعمق ولأفضل حال.
تبدو عائدات السلام العالمي قد اختفت مع ارتفاع الميزانيات العسكرية ٳلى أعلى مستوى لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية
ظنّ العالم أنه تخلّص من القرن العشرين وجنونه، وأن العالم الجديد سيولد من المدن والنواحي السويولوجيّة والديمغرافيّة والأنثروبولوديّة والعمرانية والتنموية والبيئية بوصفها مراكز للسلام والحرية والعدالة والتضامن ومن تاريخ جديد ديمقراطي، لا من حروب الأنظمة الدينية والقومية المغلقة المرتبطة بها، والتي خلفت تداعيات عرضت ذاكرة المدينة وهويتها لمخاطر حقيقية ضاعفت من حدّتها وجسامتها النزاعات الداخلية التي احتدمت أكثر في البلدان العربية. وبلغت التحولات ذروتها في ما خلفته من دمار وتهجير وأسر ضحية البؤس والفقر والٳحباط والعزلة والٳقصاء وتصاعد الراديكالية والعنف… هي فوضى كبيرة، والموضوعات التي ترتبط فيها لا تعدّ ولا تحصى، وسببها الأساسي الظاهرة الٳسرائيلية المعزولة، وتنفيذها سياسات واسعة النطاق في الاحتلال والتوسع والعنصرية.
افتُتح القرن الواحد والعشرون على مشهد البرجين في نيويورك يسقطان، ومن تحتهما، سقطت ألف مدينة أخرى لم تُبْنَ بعد. من نيويورك إلى بغداد، من الموصل إلى صنعاء والخرطوم وطرابلس الغرب، من غزّة إلى بيروت، ومن دمشق وحمص وحلب إلى طهران وشيراز وأصفهان.. المدن لم تعد مدناً، بل باتت جبهات، مواقع قصف مباشر، أهدافاً دقيقة في بيانات الحرب. وتهدّد الحرب بصورة خطيرة الهياكل الاجتماعية وٳدارتها، وكل ما يرتبط بالتنوع الأحيائي الجوهري بالقيم الٳنسانية وأنماطها، وتحرّم كرامة كل من يقيمون فيها في مدن الشرق الأوسط، (ويبدو هذا في المستقبل مع مدن أخرى قابلة للتجزئة لجهة المخاطر التي تتهدّدها).
صارت المدينة فضيحة عالمية مع الحروب بشكلها المتطرّف من العزل وتهديد الموارد وفي وسائل التدمير والهجرات الاجتماعية والتوترات والنزاعات المرتبطة بفقدان الأمن الغذائي. كم مات في كييف وفي غزّة؟ كم بقي من جروح؟ من يحمل مفاتيح العودة؟ ومن يملك رخصة الهدم وٳعادة الٳعمار؟ ومن يملك بعدها توسيع فرص السلام في عقول الناس بمكاسب حاسمة أكثر بكثير من الحرب على المستقبل؟
المدينة التي كان يُفترض أن تكون حضناً للجميع لم ينجح العالم في حمايتها، ويكشف الوضع السائد عن فشل القوة، وكذلك النظام الاقتصادي الذي يقدم القروض والسلاح معاً. ويبدو العالم في القرن الحادي والعشرين في أقصى التفتت، وأقصى العنف. وتبدو عائدات السلام العالمي قد اختفت مع ارتفاع الميزانيات العسكرية ٳلى أعلى مستوى لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
صارت المدينة فضيحة عالمية مع الحروب بشكلها المتطرّف من العزل وتهديد الموارد وفي وسائل التدمير والهجرات الاجتماعية
بعد أحداث 11 سبتمبر (2001)، بدأ ٳرهاب المدن الكبرى. بدأ كل ما يجري كأنه يردُّ على العالم الجديد، لا ليفنّده فقط، بل ليفجّره. والحرب أسوأ الخيارات، وكثيراً ما تكون أسهلها، مع السهولة المسؤولة عن قتل المدنيين، والسهولة المسؤولة للقادة الأيديولوجيين (وحتى الليبراليين) محبّي الحرب بحسابات أنانية قصيرة الأجل. صار يُنظر إلى المدن “أهدافاً” استراتيجية، لتُقصف بوصفها مراكز عسكرية. وكأن المدن، بدل أن تكون منارات الألفية، صارت ساحاتٍ لتصفية الحسابات بين القرنين، العشرين والواحد والعشرين. أراد العالم ألف مدينة، فأعطي ألف جبهة، وها نحن نعيش زمناً لم يعد يفرّق بين المدينة مكاناً للعيش والمدينة مكاناً للموت المتلفز.لا بوصفه صراعاً بين جيوش، بل قصة مدن تُستهدف، تُحاصر، تُهدم، تُخنق.
لم تعد الحرب مجرّد مواجهة عسكرية في ساحات تقليدية، بل أصبحت حرباً على الحياة اليومية، تُشنّ على الكهرباء والماء والمستشفيات (وما أكثرها في غزّة)، على الأطفال والنساء وٳرهاب المدنيين، وعلى البيوت التي كانت مأوى فأصبحت قبوراً، على الطرق التي كانت توصل الناس بعضهم ببعض، فصارت تفصلهم بالموت، فالمدينة لم تعد محايدة، بل تحوّلت إلى جبهة، وربما إلى الضحية الأوضح.
هو كلام هاملت… وليس كلام أي رجلٍ آخرعلى “تروث سوشال”. هنا القوة! تغريدةٌ واحدة تُسقط بورصة، أخرى تُحيي صفقة، ثالثة تُعلن حرباً ثم تُلغيها في مشهد سياسي عالمي جديد مركّب، يعيد تشكيل العالم وجغرافيا المنطقة. صورة الخوف الكبير القائم في الشرق الأوسط مع تحدّيات السلام العبري الذي يجري تأسيسه.
المصدر: العربي الجديد