السوريون ولعبة الحرب الإسرائيلية الإيرانية

د. عبد المنعم حلبي

لقد كشف التفاعل الشعبي السوري، منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الإيرانية، في صبيحة الجمعة الـ13 من حزيران الجاري، عن مشهد وجداني-انفعالي وسياسي مركّب، يكاد يجمع بين الضدين: الابتهاج الواضح بالضربات الإسرائيلية على النظام الإيراني، والشماتة المضادة عند وصول الصواريخ الإيرانية إلى تل أبيب وحيفا، ثم كانت “صدمة ترامب السلمية” التي أعلن فيها انتهاء الحرب، والتي لم تلغِ ضرورة الوقوف أمام هذا الموقف الشعبي السوري من هذه الحرب، بوصفه أحد أبرز تجليات الوجدان الجمعي العربي في لحظة إقليمية فارقة غير مسبوقة، لن يكون ما بعدها كما قبلها. فهذا التداخل والتضاد في المواقف، وإن كان نتاجاً مشتركاً، قد يبدو طبيعياً، لتراكمات حصلت في إطار المأساة السورية، إلا أن الواقع، في خضم التصعيد، أشار إلى أن سوريا لم تكن بمنأى عن ألسنة النيران المتشابكة، وربما لن يتم تحييدها عن الترتيبات التي ستلي انطفاءها، فماذا يتوجب علينا عمله؟!

وهكذا مع انطلاقة الهجوم الإسرائيلي الذي أعلنه نتنياهو تحت مسمى “الأسد الصاعد”، والذي طال منشآت عسكرية ثم مدنية إيرانية حساسة، وشخصيات قيادية من الحرس الثوري وفيلق القدس، إضافة إلى علماء نوويين إيرانيين بارزين، بدأ قطاع واسع من السوريين بالتعبير عن فرحهم بتلك الهجمات، معتبرين إياها نوعاً من “العدالة المؤجلة”، وكردة فعلٍ طبيعيةٍ على سجل دموي طويل ارتكبه النظام الإيراني ضد الشعب السوري.

في المقابل لم تنتظر إيران سوى ساعات قبل أن تبدأ ردها، في مساء يوم الجمعة نفسه، وكان رداً صاروخياً مفاجئاً طال تل أبيب وحيفا بصورة أساسية، فيما عُرف بعملية “الوعد الصادق 3″، لنجد السوريين يتحولون، في قطاع واسع منهم، إلى الحديث عن “عدالة إلهية” أخرى، انتقاماً لما ارتكبته وترتكبه إسرائيل في غزة، ليعبر بعضهم عن موقف ثابت من القضية الفلسطينية والعداء لإسرائيل التي يقودها المتطرف نتنياهو، والذي وسع احتلاله إلى أراضٍ سورية، ويهدد أمن وسلامة دمشق ذاتها.

اختلطت حالة الفُرجة السورية للحرب بالترقب الحذر من توسعها، وصولاً للحظات متقلبة بين التفاؤل والتوتر الأمني..

لقد تابع السوريون جميعاً بشغف وبالحماس نفسه -تقريباً- تفاصيل الهجمات الإسرائيلية وموجات الرد الإيراني المتتالية، في الوقت الذي كان الإعلام الرسمي مكتفياً باستقبال محللين مناوئين للنظام الإيراني، دون أن يصدر عن السلطات السورية أي تصريحات متعلقة باختراق الأجواء السورية من قبل الطرفين، أو قيام وحدات تابعة للجيش الصهيوني بتحركات عدوانية في ريف القنيطرة، حيث اعتقلت أطفالاً بتهمة تصوير الآليات الموجودة في إحدى القرى، وهكذا بقيت السلطة والحكومة السورية الانتقالية تحاول الإبقاء على حالة من الصمت والهدوء الرسمي النسبي، التي استمرت بها على مدار أيام الحرب.

ومع وصول الحرب إلى ذروتها بالضربة الأميركية لمنشأة “فوردو” النووية، ليلة 21-22 حزيران، عبر قاذفات B-2 وقنابلها التدميرية بعملية “ليلة المطرقة”، حيث أعلن ترامب نجاحها بمسح فوردو نهائياً، ثم أردف، دون أن يُهتم لعبارته: “الآن هو وقت السلام”، لينتقل الزخم العالي الذي أحدثته الضربة الأميركية في المشهد الدولي والإقليمي، إلى مشاعر السوريين، حيث اختلطت حالة الفُرجة السورية للحرب بالترقب الحذر من توسعها، وصولاً إلى لحظات متقلبة بين التفاؤل والتوتر الأمني.

وهنا، وفي صبيحة اليوم التالي، صدر مرسومان يقضيان بزيادة الأجور للعاملين في مؤسسات الدولة، الأمر الذي كانت له استجابة مطمئنة من الشارع السوري، ولكن سرعان ما تبدّد شعور الاطمئنان هذا إثر العملية الإرهابية والانفجار الدموي الذي هز كنيسة مار إلياس في منطقة الدويلعة بالعاصمة دمشق، وأودى بحياة عشرات المدنيين.

ورغم إعلان وزارة الداخلية السورية عن تورّط تنظيم الدولة “داعش” في الهجوم، فإن توقيت الهجوم وسياقه طرحا تساؤلات جدية حول ارتباطه بالمشهد الإقليمي المتفجر، ومدى القدرة على منع ارتداد الحرب الكبرى إلى الداخل السوري.

وهكذا بقيت المؤشرات الميدانية توحي بأن استقرار سوريا ما يزال هشاً، خصوصاً في ظل عودة التحركات العسكرية إلى بعض النقاط الحدودية مع العراق، والتي أثارت مخاوف البعض من انزلاق سوريا إلى قلب النزاع، لا كمراقب هذه المرة، بل كفاعل أو هدف، رغماً عنها، أو بفعل تحالفات فرضها الواقع.

اقتصادياً، ومع ارتدادات الحرب التي كانت قد تجلت سريعاً: أسعار النفط ارتفعت بشكل حاد نسبياً، وسط حديث كان متزايداً عن احتمال إغلاق مضيق هرمز، مما أوقع القلق في الأسواق العالمية من تأثر سلاسل الإمداد، أو توسع الصراع نحو دول الخليج المنتجة للطاقة، وقفت سوريا، في ذاك السياق، في موقع شديد الحساسية: فاقتصادها الهش أصلًا كان مرشحاً لمزيد من الانكشاف، سواء عبر تراجع إمدادات الطاقة، أو من خلال تعطيل المبادلات التجارية الناشئة مع محيطها العربي، أو عبر الضغوط التضخمية المستوردة من الأسواق العالمي الموازية لارتفاع الدولار في السوق الموازية، وربما -أيضاً- المخاوف من انشغال الداعمين عن سوريا في المستقبل القريب.

وعلى الرغم من التصريحات المفاجئة للرئيس الأميركي دونالد ترامب ليلة الإثنين-الثلاثاء، 23 من حزيران، بُعيد ردٍ إيراني خجول على قاعدة “العديد” في قطر، والتي أعلن فيها أن الحرب بين إسرائيل وإيران “ستنتهي خلال الساعات القادمة”، وانتقال المشهد من مرحلة التصعيد العسكري المتسارع إلى مرحلة من الغموض الحذر، في الطريق نحو وقف إطلاق النار، إلا أن هذا التحول لم يلغِ دائرة الخطر حول سوريا، فالحرب الإسرائيلية–الإيرانية التي شهدها الإقليم، والتي كسرت كل المحرّمات التقليدية في قواعد الاشتباك وحجم التدمير المتبادل، ستترك أثرها العميق، على الخريطة وإعادة رسم التوازنات الجيوسياسية، وربما على بنية المجتمعات والنسيج السياسي لكل دول الجوار، وتفتح على سوريا أبواباً جديدة من التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية.

انتُهكت سوريا بما فيه الكفاية، وآن لها أن تُستعاد، لا كأرض فقط، بل ككلمة، كموقف، وكدولة تحجز مكانها في الإقليم، وأن تحجزه لا كحطام تابع، بل كفاعلٍ نزيه، يُدير بوعي عالٍ التناقضات الإقليمية، من دون أن تتحول سوريا إلى أداة بيد أحد أطرافها..

أمام هذا المشهد المعقّد، الذي يبدو منطلقاً لمرحلة قادمة من التحولات الكبرى، ومع وجود مخاوف من تحول سوريا مجدداً إلى ساحة تصفية حسابات، لا يبدو أن الصمت أو ترقب “الانفراج الدولي والإقليمي” كافيان لصون سوريا من موجة التداعيات الآتية، ومن هنا، فإنّ عملاً مهماً يقع على عاتق السوريين ويجب إنجازه في القريب العاجل.

فمن حيث المبدأ، وانطلاقاً من الهشاشة الأمنية والاقتصادية المشار إليها عن أوضاع البلاد، ومع تجاوز السوريين اليوم للانقسام العاطفي حيال من يقصف من، يصبح من الضروري العمل الجاد لبناء موقف وطني سوري موحَّد، يُفكّك الاصطفافات المرتبطة بالخارج، موقف يُبنى على رؤية واضحة يُعيد الاعتبار لمفهوم السيادة الغائب، فلقد انتُهكت سوريا بما فيه الكفاية، وآن لها أن تُستعاد، لا كأرض فقط، بل ككلمة، كموقف، وكدولة تحجز مكانها في الإقليم، وأن تحجزه لا كحطام تابع، بل كفاعلٍ نزيه، يُدير بوعي عالٍ التناقضات الإقليمية، من دون أن تتحول سوريا إلى أداة بيد أحد أطرافها، والسعي لاستعادة الانطلاقة من جديد للعبور من هشاشة الوضع الأمني والاقتصادي، بل والسياسي أيضاً، بالإصرار على أن يكون للسوريين جميعاً صوتهم في صياغة المرحلة القادمة، سواء داخل حدودهم، أو في إطار الندية مع جوارهم الإقليمي، على أساس الحياد السيادي والمصالح المشتركة.

وفي هذه اللحظة، على السوريين، حكومةً ومجتمعاً وقوىً متفرّقة، أن يقرّروا ما إذا كانوا يريدون أن يكونوا مادة للحرب، أم فاعلين في صناعة السلام، الوطني والإقليمي.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى