حروب السيطرة

علي العبد الله

جاء العدوان الصهيوني الأميركي على إيران تنفيذاً لعقيدة وضعها جيمي كارتر خلال فترة رئاسته الولايات المتحدة (1976 – 1980)، تقضي باستعادة توازن القوى المختل لغير صالح الولايات المتحدة في أي إقليم في العالم، وذلك لضرب النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، تمهيداً لتحويله إلى ساحة استثمارية واحدة، وفق رؤية الرئيس دونالد ترامب، بحيث يكون للكيان الصهيوني موقعٌ قياديُّ فيها.

شكل النظام السياسي الذي أقيم في إيران بعد الثورة الشعبية على النظام الشاهنشاهي التي انفجرت عام 1979 تحت قيادة مشايخ الدين، عملاً بنظرية ولاية الفقيه، حالة جديدة وغريبة على النظام الدولي القائم في ضوء تصور النظام الجديد للعالم وموقفه من الكتلتين، الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة، والشيوعية بقيادة الاتحاد السوفييتي، كذلك عبّر عنه بإعلانه توجّهاته بشعار “لا شرقية ولا غربية”، وتبنّيه سياسة نصرة المظلومين عبر العمل على تصدير الثورة إلى الدول الإسلامية، حيث نُظر إليه من الكتلتين نظرة عدائية جسّدها عدم الاعتراف به نظاماً شرعياً، والعمل على عزله وتطويقه، وقد كشفت وثائق السفارة الأميركية في طهران التي احتلها الطلاب صباح 4/11/1979 طوال 444 يوماً عن وجود مخطّط لإسقاطه، والعمل على هزيمته في حربه مع العراق (1980-1988)، حيث قدّمت الدول الغربية، الولايات المتحدة بشكل خاص، إلى النظام العراقي الأسلحة والمعلومات الاستخبارية، وقدّم الاتحاد السوفييتي صواريخ سكود التي ألحقت دماراً بمدن إيرانية، بما في ذلك العاصمة طهران، ما أضطر القيادة الإيرانية إلى تجرّع السم، وفق قول الخميني، والقبول بوقف إطلاق النار.

نجح الكيان الصهيوني في ضرب أذرع إيران في سورية ولبنان وفلسطين، ما قاد إلى انهيار مرتكزات استراتيجية الردع الإيرانية

لم تقف القيادة الإيرانية بعد توقف الحرب مكتوفة الأيدي، بل بنت استراتيجية دفاعية مرتكزة على دروس الحرب، بإقامة برنامج صواريخ لتوفير حماية للمدن من خلال الردع، وتشكيل خط جبهة أمامية حول الكيان الصهيوني في فلسطين، وسيلة لردع أي هجوم عليها من الولايات المتحدة لتغيير النظام، بالتلويح بالانتقام من ربيبتها وقاعدتها المتقدّمة في الشرق الأوسط، باللعب بالورقة المذهبية في الدول العربية، عبر تبنّي مظلوميات العرب الشيعة، ودفعهم إلى الانفصال عن أوطانهم والعمل ضد مجتمعاتهم، وتفتيتها مذهبياً، وتحويلهم إلى جنود في مشروع حماية الأمن القومي الإيراني، بتشكيل مليشيات شيعية في العراق، منظمة بدر وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله، وفي لبنان، حزب الله، واحتضان الحوثيين في اليمن، وتبنّي مظلومية الشعب الفلسطيني ورفع شعارات تحرير فلسطين لجذب الفصائل الفلسطينية وإدخالها في تشكيلها الدفاعي. وقد نجحت في استقطاب فصائل كثيرة، من حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، إلى حركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية – القيادة العامة، ودعمتها بالتمويل والتسليح والتدريب ونقل خبرات في تصنيع بعض أصناف الأسلحة والمتفجرات، وتعزيز حضورها في سورية لتأمين طرق نقل الأسلحة والمدربين إلى حزب الله في لبنان وفصائل فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزّة. وبهذا أكملت بناء الطوق، وسوّقته باسم جذاب يلامس مشاعر الشعوب العربية المقهورة: محور المقاومة، وهذا حوّلها إلى قوة وازنة في الشرق الأوسط، فغدت في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 في ذروة نفوذها، بامتلاكها تأثيراً قوياً في منطقة جغرافية واسعة تمتد من العراق إلى البحر الأبيض المتوسط.

استثمرت الولايات المتحدة هذا التغيير الجيوسياسي بترويج ضرورة التعاون والتنسيق بين الأنظمة العربية والكيان الصهيوني لمواجهة الخطر الإيراني الذي أصبح داهماً، ونجحت في تخفيف حالة العداء بين أنظمة عربية والكيان الصهيوني، كذلك عملت على دمج الأخير في الإقليم عبر التنسيق الأمني، من خلال نقله إلى ساحة عمل القيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط (سينتكوم)، بعد أن كان يتبع للقيادة العسكرية الأميركية في أوروبا (ينكوم)، وتسويق فكرة التطبيع عبر تجمّع أتباع الديانات الإبراهيمية. وهذا ما حصل، حيث طُبِّعَت العلاقات مع عدة أنظمة عربية، الإمارات والبحرين والمغرب والسودان. وكادت تنجح في إدخال السعودية في المعاهدة، لولا عملية طوفان الأقصى التي أربكت عملية التطبيع، وكشفت عن حجم القوة التي بلغها محور المقاومة، ودفعت الحلف الأميركي الصهيوني إلى الانخراط في مواجهة مباشرة مع النظام الإيراني، بدءاً بضرب (وتفكيك) خطه الدفاعي حول الكيان، تمهيداً لاستهدافه مباشرة.

نجح الكيان الصهيوني في ضرب أذرع إيران في سورية ولبنان وفلسطين، ما قاد إلى انهيار مرتكزات استراتيجية الردع الإيرانية، وهاجم الحوثيين في اليمن، وقصف القنصلية الإيرانية في دمشق، حيث كان قادة من فيلق القدس التابع للحرس الثوري، وعكس الرد الإيراني على قصف القنصلية الإيرانية في دمشق في إبريل/ نيسان وأكتوبر/ تشرين الأول 2024 ضعف قدرات إيران الردعية مقارنة بقدرات صهيونية وأميركية وأوروبية أسهمت في التصدّي للقصف الإيراني، قبل أن يهاجم الأراضي الإيرانية عام 2024، حيث قصفت طائراته مواقع عسكرية، وخصوصاً الدفاعات الجوية، وقد ربطت تحليلات بين هذا الهجوم والتحضير للعدوان الذي بدأ يوم 13 يونيو/ حزيران الجاري؛ حيث اعتبر الهجوم بمثابة اختبار للدفاعات الجوية الإيرانية التي قيل إن الهجوم دمرها، فغدت إيران مكشوفة أمام الطائرات الصهيونية.

أرسلت وزارة الدفاع الأميركية ما يزيد على 125 طائرة عسكرية لتنفيذ عملية القصف ضد المنشآت النووية الثلاثة

تشير اللقاءات المتواترة بين المسؤولين الأميركيين والصهاينة، لقاءا الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الصهيوني والمكالمات الهاتفية، وزيارات مسؤولين صهاينة للولايات المتحدة، وزير الشؤون الاستراتيجية الصهيوني، رون ديرمر، وقائد الأركان، وزيارات قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال مايكل إريك كوريلا، المتكرّرة للكيان واجتماعاته مع قادة عسكريين في جيش الكيان، والحشد العسكري الأميركي الضخم، من حاملات طائرات وقطع بحرية في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي وبحر العرب، وحشد طرازات عديدة من الطائرات في القواعد العسكرية القريبة مع عدد كبير من طائرات التزود بالوقود بالجو، هذا مع تزويد الكيان الصهيوني بالعتاد والذخائر والمعلومات الاستخبارية والذخائر الدقيقة، والقنابل الذكية والثقيلة، وطائرات التزود بالوقود في الجو والدعم التقني والسياسي، واستنفار القوات الأميركية والحليفة للتصدي للصواريخ والمسيّرات الإيرانية المتوقع إطلاقها بعد انطلاق العدوان، تشير هذه كلها إلى وجود خطة مدروسة للهجوم على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو ما أكدته مواقف الرئيس الأميركي، وتحديده 60 يوماً للمفاوضات، ومطالبه المتشددة خلال المفاوضات، بصفر تخصيب وصفر صواريخ باليستية، ودعوته إيران إلى الاستسلام، لدفع المفاوض الإيراني إلى الرفض واستنفاد الوقت لتبرير العدوان بالتشدد الإيراني. هذا وقد منح إعلان وكالة الطاقة الذرية قبل يوم من بدء العدوان أن إيران لا تمتثل لالتزاماتها المتعلقة بمنع الانتشار النووي للعدوان مبرراً إضافياً.

مهّد الكيان الصهيوني للعدوان الأميركي بإرباك القيادة الإيرانية عبر قتل قادة في الحرس الثوري والجيش والاستخبارات، ومهاجمة الدفاعات الجوية لتجنيب القاذفات الأميركية من طراز بي-2 سبيريت مواجهة خطر صواريخ الدفاع الجوي، ثمن القاذفة الواحدة أكثر من ملياري دولار، التي ستأتي وفق الخطة لقصف المنشآت النووية، منشأة فوردو بشكل خاص، لكونها تحمل أوزاناً كبيرة تؤثر بسرعتها، لأن الكيان لا يملك قذائف مناسبة لضربها، وهو ما أكدته صحيفة واشنطن بوست في تعليق لها على الغارات الصهيونية على هذه المنشآت حيث أكدت أنها لم تتعرض لأضرار لا يمكن إصلاحها في الموجتين الأوليين من الهجمات الصهيونية. وهذا ما حصل، حيث أرسلت وزارة الدفاع الأميركية ما يزيد على 125 طائرة عسكرية لتنفيذ عملية القصف ضد المنشآت النووية الثلاثة، ألقت 75 قذيفة دقيقة التوجيه، القذيفة “جي بي يو-57 إيه بي” الخارقة للتحصينات، وأكثر من 20 صاروخ توماهوك.

لم يقضِ القصف الأميركي الصهيوني على القدرات العسكرية الإيرانية التقليدية؛ حيث واصلت قوات الجيش والحرس الثوري قصف الكيان الصهيوني

لم يقضِ القصف الأميركي الصهيوني على القدرات العسكرية الإيرانية التقليدية؛ حيث واصلت قوات الجيش والحرس الثوري قصف الكيان الصهيوني بالصواريخ الباليستية والمسيّرات، وأُدخلت صواريخ فرط صوتية أسرع وأكثر تدميراً، ما جعل التصدّي للقصف أكثر كلفة وأقل جدوى، وقد حذّرت جهات أمنية في الكيان من نفاد صواريخ منظومتي حيتس 2 وحيتس 3 الخاصة بالتصدّي للصواريخ الباليستية بعيدة المدى، القادمة من الغلاف الجوي، كذلك لم تكن عمليات قصف المنشآت النووية قاضية، فقد شككت تقديرات محللين بنتائج القصف بناءً على صور الأقمار الصناعية، وألمحت تقديرات أخرى إلى عدم جدوى القصف “فلدى إيران آلاف العلماء والفنيين المشاركين في برنامج التخصيب، ومعظمهم نجوا من الهجمات الأميركية”، وفق مدير برنامج السياسة النووية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، جيمس أكتون، الذي أضاف: “لا يمكنك قصف المعرفة”، فيما رأى المحلل السياسي الروسي، أندريه أونتيكوف، “أن الضربات الأميركية التي استهدفت منشآت إيران النووية فجر الأحد ستكون محدودة التأثير، خصوصاً إذا توقفت الأمور عند هذه المرحلة من دون تدخل أميركي إضافي”. كانت تقارير صحافية قد أشارت إلى خشية ترامب من فشل القنبلة الخارقة في تدمير منشأة فوردو، ما يمسّ بسمعة الولايات المتحدة وأسلحتها.

كلا طرفي المواجهة، إيران والكيان الصهيوني، يعتبر الطرف الآخر خطراً وجودياً، ما يجعل المواجهة صفرية، خصوصاً أن رئيس الوزراء الصهيوني يحتاج إلى نصر حاسم كي يمحو به تبعات عملية طوفان الأقصى ويضمن مستقبله السياسي، وهذا دفعه إلى وضع أهداف ضخمة للمواجهة: تغيير الشرق الأوسط عبر تفكيك إيران وسورية والعراق وإعادة تركيبها، وإحداث تغييرات كبيرة في مصر، بما يتماشى مع المصالح الاستراتيجية الغربية الأوسع، وخصوصاً الأميركية، وفرض إرادة كيانه على القوى الإقليمية الأخرى، التي ستضطر إلى الخضوع لنظام إقليمي جديد بقيادة كيانه.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى