
منذ وصول السلطة السورية الجديدة إلى الحكم قبل ستة أشهر، بدا المشهد محكومًا ببرود لافت: لا قمع سياسي مباشر، لا مواجهات مع الرأي العام، لا هياج أمنيّ على الإعلام أو النشاط المدني.
بل على العكس، سمحت السلطة بتداول النقد، وبقيت صامتة أمام منشورات كان يمكن لنظام الأمس أن يردّ عليها بالاعتقال أو الإقصاء الفوري.
وقد يرى مؤيدو السلطة في هذا الصمت مؤشرًا على انفتاحها، بل يعتبره بعضهم دليلًا على أنها لا تملك مشروعًا استبداديًا، ولا تسعى إلى قمع المجتمع أو احتكار الفضاء العام.
لكن هذا الفهم يتجاهل طبيعة الأنظمة الهجينة، التي لا تستخدم القمع الصريح، بل تُحكم السيطرة من خلال هدوء مدبّر، يُفرغ السياسة من معناها ويمنع تشكّل أي فعل جماعي مؤثر.
هذا الهدوء لا يعكس انفتاحًا حقيقيًا، بل يشي بتبنٍّ صريح لنموذج سياسي حداثي أصبح مألوف عالميًا: نموذج السلطة الهجينة أو ما يُعرف بالدكتاتوريات المخملية.
أنظمة لا تحتكر السلطة بالقمع وحده، بل تتحكم عبر أدوات ناعمة: لا تُسكت المعارض، بل تحوّله إلى صوت فردي محايد، لا يُلغي المؤسسات، بل يُفرغها من مضمونها، يسمح بالنقد طالما أنه لا يتحوّل إلى موقف سياسي أو جبهة منظمة.
هذه الدينامية ليست نظرية، بل موثقة في دراسات حديثة مثل أطروحة Spin Dictators لدانيل تريزمان وسيرغي غوريف (2022)، التي توضّح كيف تنتقل الأنظمة من قمع عنيف إلى احتواء ناعم، خصوصًا في روسيا ما بعد 2000، وتركيا بعد محاولة الانقلاب في 2016، حيث تُنتج السلطة معارضة شكلية وتضبط السرد السياسي دون أن تتورّط في قمع مكشوف.
في الحالة السورية، يتكرر هذا النموذج مع خصائص إضافية: شبكة مصالح اقتصادية مغلقة، وخرائط ثروة تُدار خارج أي رقابة، ونظام سياسي يؤسس سلطته على توزيع الغموض لا توزيع القرار.
النقد مسموح طالما بقي فرديًا وعابرًا، والمشاركة السياسية متاحة شكليًا طالما لا تهدد بنية اتخاذ القرار.
أما الخطوط الحمراء، فهي غير معلنة لكن واضحة: يمنع الاقتراب من ملفات الفساد المحمية، من الاقتصاد السياسي الغامض، من تحالفات ما بعد الحرب التي رسّخت السيطرة عبر الشركات الرديفة والولاءات العابرة للدولة.
لا أحد يتحدث عن شروط التمثيل، ولا عن هوية نصف الشعب الذي يعيش خارج البلاد، ولا عن مصير اللجنة التي عُيّنت لتشرف على مجلس صُنع مسبقًا.
السلطة هنا لا تحتاج إلى سجون ممتلئة، بل إلى فضاء عام فارغ. لا تسكتك، بل تفرغ صوتك من أثره. لا تمنعك من الحلم، لكنها ترسم لك الواقع مسبقًا وتتركك تتأمل في خرائط لا طريق فيها.
وهذا ما يجعل نشوء معارضة جماعية أمرًا مستحيلًا: ليس بفعل القمع، بل بفعل غياب الشروط. المعارضة تتحوّل إلى مبادرات منفصلة، منزوعة الأفق، لا قادرة على التنظيم ولا محمية من التفكك، لأن اللعبة كلها تقوم على فصل كل لاعب عن الآخر، وعلى تسكين السياسة داخل فقاعة نقد فردي لا يُفضي إلى فعل جماعي.
هذا هو جوهر التحالف بين الليبرالية الاقتصادية والاستبداد السيادي: سوق مفتوحة للربح، وحدود مغلقة للمساءلة. أما أنت، فمسموح لك أن تتكلم، أن تحتج، أن تصرخ طالما لا تلمس ما هو فعلي، ما هو مركزي، ما هو محرّم.
وهكذا لا يُلغى الفعل السياسي، بل يُحوّل إلى شكل لا يهدد، إلى نشاط لا يترك أثرًا، إلى خطاب لا يحوّل التراكم إلى ضغط.
هكذا تُدار البلاد: سلطةٌ تمسك بكل المفاتيح، وتترك لك حرية الصراخ من خلف الأبواب الموصدة. لا حاجة لاعتقال الناس ما دام القرار نفسه معتقلاً.
لا أوافق على تفاصيل الطرح، لكن الإطار العام له يبدو جديا ويستأهل التأمل.
التحليل ورسم المشهد كأنه بني على قاعدة ما يجري في سوريا راهنا، وليس العكس، الأمر يحتاج الى معرفة أصول هذه النظرة كما وردت في البحث المشار إليه.
بكل الأحوال قراءته، وتحديد معالم “الاستبداد الناعم” مفيد في مراقبة تطور الوضع في سوريا سياسيا واقتصاديا وكذلك اجتماعيا باعتبار التهديدات التي تحيط بوحدة المجتمع السوري داخليا، وبسلامة ووحدة الجغرافيا السورية.
د.مخلص الصيادي
المصدر: صفحة د- مخلص الصيادي