الجيش السوري الجديد وعقيدة “الجماعة المؤمنة”

مالك الحافظ

شهدت التيّارات الجهادية العابرة للحدود، في العقود الماضية، تحوّلاتٍ نوعية، بدأت مع تجربة “الجهاد الأفغاني” في ثمانينيّات القرن العشرين، حين تبلورت أولى ملامح “العقيدة الجهادية الدولية” في سياق مقاومة الاحتلال السوفييتي. ثمّ في تسعينيّات القرن نفسه، اتّخذت هذه التيّارات مساراتٍ تنظيميةً وعقديةً أكثر راديكالية، مع صعود تنظيم القاعدة، ومنظّري السلفية الجهادية. ضمن هذا التصاعد، ظهرت أنماطٌ من “الهجرة الجهادية” إلى بؤر النزاع، تستند إلى مرجعياتٍ دينيةٍ سلفية، وتسعى إلى بناء جماعاتٍ مؤمنةٍ تتجاوز فكرة الدولة الوطنية وحدودها.
وفي السياق السوري، شكّلت الثورة نقطةَ تحوّلٍ مفصلية، سرعان ما دخلت منعطفاً معقّداً بفعل تدخّل قوى إقليمية، وتعدّد الفواعل المسلّحة في الأرض. وفي ظلّ هذا الانكشاف، وجدت التيّارات المتشدّدة فرصةً لتوسيع نفوذها، مستفيدةً من خطاب تعبوي، ومن شبكة تنظيمية عابرة، سرعان ما جعلت من سورية منطلقاً محورياً لمشروعها الديني المؤدلج.
استثمرت الحركات السلفية الجهادية هذا الانفتاح، فبنت شبكاتٍ عقائدية وتنظيمية باسم “الجماعة المؤمنة”، ممهّدةً الطريق لمدّ سيطرتها عبر شعار “الحكم الشرعي”، ومرسّخةً الجغرافية السورية ساحةً مركزيةً في مشروعها العابر للحدود.

لم يدخل الحزب الإسلامي التركستاني في سورية المشهد بوصفه جماعةً مقاتلةً فحسب، وإنما أيضاً واحدةً من حلقات ما تسمّى “الجماعة المؤمنة” العابرة للحدود

اليوم، لم يَعُد حضور الجماعات الجهادية الأجنبية محصوراً في التمركز العقائدي أو في الانتشار العسكري المستقلّ، ففي سياق متغيّر لم تُحسَم فيه بعد ملامح الهُويَّة الوطنية، بدأت الحكومة الانتقالية السورية تروّج مقترحات تقضي بإعادة هيكلة بعض الفصائل الجهادية ضمن تركيبة الجيش الوطني الجديد. وقد كشفت تقارير صحافية حديثة مستندة إلى وكالة رويترز وجود موافقة أميركية على ضمّ عناصرَ متشدّدة، منها الكوادر الميدانية التابعة للحزب الإسلامي التركستاني، المنحدرون من الإيغور الصينيين، في البنية العسكرية الرسمية الناشئة. وتجسّد هذه الخطوة مؤشّراً واضحاً على تحوّل أعمق نحو إعادة تعريف الدولة، عبر إدخال منطق العقيدة الجهادية أحدَ مكوّنات التكوين السلطوي البديل، بما يُعيد خلط الانتماءات بين ما هو إيماني وما هو وطني، ويطرح إشكالات بنيوية حول مشروعية السلطة، واستقرار النموذج الأمني العسكري، الذي يُراد له أن يحكم سورية في مرحلتها الجديدة.
ما يستدعي الانتباه في تجربة الحزب الإسلامي التركستاني في سورية، أنه لم يدخل المشهد بوصفه جماعةً مقاتلةً فحسب، وإنما أيضاً واحدةً من حلقات ما تسمّى “الجماعة المؤمنة” العابرة للحدود، منطلقاً من نسق أيديولوجي يرى أن الجهادية السلفية لا تُقيَّد بإطار سيادي تقليدي، وإنما تتعاطى مع الجغرافية أداةَ تعبئةٍ لا حدوداً وطنيةً، وتُعيد تشكيل الولاء على أسس مرجعية متشدّدة تتجاوز الانتماء الجغرافي إلى منطق فوق وطني. وتستند فكرة “الجماعة المؤمنة” إلى تصوّر سلفي جهادي يرى أن الولاء يجب أن يكون للعقيدة وليس للدولة الوطنية، ما يعزّز منطق الطاعة المطلقة، ويعيد صوغ مفاهيم السيادة والانتماء.
تنبني السلفيةُ الجهاديةُ على خطاب مؤدلج يرى أنّ معظم الدول القائمة في المجال الإسلامي لا تُجسّد “حاكمية الله” كما ترد في منظومتهم الفكرية، وأنّ الولاء لأيّ بنية سياسية لا تتبنى هذا الفهم انحرافٌ عن المنهج القويم. وقد أسهم هذا التصوّر في بلورة خطاب تعبوي عسكري يحثّ على “الجهاد في سبيل إقامة الشريعة”، ويعمل، بالتوازي، على بناء سلطة تنظيمية بديلة. في السياق السوري، لعبت قياداتٌ أجنبية من التيّار السلفي الجهادي دوراً محورياً في ترسيخ هذا النهج، عبر منظومات إعلامية ودعوية عابرة للحدود، ما مهّد لتأسيس كيانات عسكرية عقائدية تعمل تحت عناوين متعدّدة، يجمعها منطق الطاعة المطلقة للشيخ القائد بوصفه مرجعيةً شرعيةً مطلقة.
يمكن تأطير هذا التحوّل ضمن ما يُسمّيها الباحث جيل كيبل “السلفية الجهادية الطبعة الثالثة”، والتي تنتقل من صدام مباشر مع الغرب إلى بناء سلطوي موازٍ داخل الفوضى السياسية للدول الضعيفة. كما يربط الباحث أوليفيه روا بين هذه التحوّلات و”أفول الإسلام السياسي” مقابل صعود “إسلام ما بعد الدولة”، إذ تتحول الجماعة إلى نواة بديلة للشرعية والسلطة.
يُعدُّ “الحزب الإسلامي التركستاني” أحد أكثر التعبيرات وضوحاً عن تشكّل البنية السلطوية السلفية الجهادية المتخطّية للجغرافيا الوطنية. فالحزب، الذي تأسّس في مطلع الألفية بوصفه امتداداً لتنظيم الحركة الإسلامية لتركستان الشرقية، حمل معه تصوّراً مشبعاً بفكرة “الأمّة المظلومة” و”الخلافة المؤجّلة”. ويُعدّ هذا التصوّر تمثيلاً واضحاً لمفهوم “الشرعية ما قبل الدولتية”، فهو يستمدّها من مرجعية إيمانية متشدّدة تستحضر مفاهيم مثل الخلافة والبيعة والتمكين، بوصفها مصادر تفوق شرعية الحدود والسيادات الوطنية. وقد مهّدت له البيئات غير المستقرّة أرضيةً خصبة لتحويل سردية المظلومية جهازَ تعبئة عقائدي وميداني شديد الانضباط. وتكمن خطورة هذا التوسّع في أنه يُعيد تفعيل فكرة “التمكين المرحلي”، كما نظّر لها أبو مصعب السوري، التي ترى أن كلّ ميدان مواجهة يُنظر إليه بوصفه “إمارة مؤقّتة”. وهذا ما يمنح الجماعة مشروعيةً ذاتيةً لا ترتبط بالدولة السورية، بل تتعالى عليها، وتربط وجودها بسياقاتٍ أمميةٍ مفتوحة، ما يجعلها قابلةً للتدوير الجيوسياسي في كلّ لحظة احتياج.

يتمثّل خطر الإدماج والتجنيس للقوى القتالية الأجنبية في سورية بما يكتنفهما من نسق عَقَدي يُقصي مفهوم الدولة الحديثة

لم يكن تحوّل الحركات الجهادية من مجموعات تعبئة عقدية إلى هياكل حكم فعلية خاصّاً بالحالة السورية، بل يأتي ضمن نمط أوسع من إعادة تشكيل الفاعلين العقائديين قوىً حاكمةً داخل الفوضى السيادية، وقد أشار الباحث توماس هيغهامر في دراساته عن الحركات الجهادية إلى ما يُسمّيها “نقلة البندقية إلى البيروقراطية”، إذ تسعى التنظيمات المؤدلجة إلى بناء أجهزة حُكم، من التعليم إلى القضاء، من دون المرور بشرعية صناديق الاقتراع أو المبادئ الدستورية.
هذه النقلة، التي وصفها هيغهامر بأنها “عسكرة الحكم من خارج الدولة”، تُعيد تعريف السلطة بوصفها امتداداً للعقيدة، وتُعزّز منطق “السيطرة الإيمانية” داخل الفراغات السيادية. بهذا المعنى، يسمح إدماج تلك الحركات داخل بنية الدولة من دون نزع هذا المنطق المؤسّس، لها بإعادة إنتاج نفسها داخل قلب النظام، بما يهدّد بتفجير داخلي مستمرّ للكيان السيادي من داخله.
يتمثّل خطر الإدماج والتجنيس للقوى القتالية الأجنبية في سورية بما يكتنفهما من نسق عَقَدي يُقصي مفهوم الدولة الحديثة، فحين تُمنح الجنسية بوصفها تشريفاً جهادياً رمزياً يُحيل إلى قيمة استحقاق عقائدي لا انتماء قانوني. ومن هنا، تبدو خطورة أيّ مشروع لإلحاق عناصر من الحزب التركستاني في تشكيلات الدولة السورية الجديدة، بسبب استحالة انصهارهم في إطار وطني يحتكم إلى منطق الدولة ومؤسّساتها، فالحزبُ لم يكن يُخفي رؤيته إلى ما بعد سورية؛ بوصفها محطّةً في صراع أيديولوجي عالمي ضدّ “الطغاة والمرتدّين”، تُجيّره خطبه وأدبياته من حيث هي مرحلة في تحقيق السطوة. وبالإمكان تلمّس هذا التصوّر بوضوح في خطب منشورة لقادة الحزب في منصّاتٍ مثل “صوت الجهاد” و”مؤسّسة الفرقان” (منصّات تُعرف بانتمائها لتنظيمات راديكالية مثل القاعدة أو الجماعات المرتبطة بها)، إذ كان يُؤطَّر وجود الحزب في سورية مقدّمةً لاستعادة تركستان الشرقية، وإقامة ما يسمّونها “ولاية الأمّة” لا “الدولة”. هذا الخطاب لا يُبقي على الانفصال العقائدي، وإنما يُكرّس رؤية استبدالية شاملة للسلطة.
في سياقات دولية عدة عرفت صعود فصائل جهادية سلفية، لم يُشكّل انخراط الفصائل القتالية أو التعايش معهم داخل مؤسّسات الدولة حلاً ناجزاً. ففي أفغانستان مثلاً، أدّى احتضان حركة طالبان المقاتلين العرب إلى تعقيدات سيادية وتداخلات أمنية، أفضت إلى عزل الدولة دولياً. وفي الشيشان، ظلّ المقاتلون القادمون من الخارج خارج الإطار المؤسّسي، وأُعيد توظيف تجربتهم لاحقاً في مسارح نزاع أخرى. لا يتعلّق الأمر بمنح الجنسية فقط، بقدر ما يتّصل بالتماهي الأيديولوجي مع سرديةٍ لا ترى في الدولة الوطنية إطاراً نهائياً للانتماء، وإنما واحدةً من مراحل الجهاد الأممي. تصوّرات كهذه، حين تدخل المؤسّسة العسكرية من دون تفكيك، تُحدث تضارباً وظيفياً داخل المؤسّسة، فيتقدّم الولاء العقائدي على الانضباط الوطني المؤسّسي، وتتآكل مرجعية الدولة سلطةً عليا في اتخاذ القرار.

المواجهة لم تعد محصورة بالمقاتل الأجنبي، ولا بمشروع دمجه في المؤسّسة العسكرية السورية، وإنما تتجاوز ذلك إلى تفكيك المنظومة الذهنية التي ترى في الجهادية نواة لدولة بديلة

ما يثير القلق بشأن دمج المقاتلين الأجانب في سورية إمكانية قابليتهم المستمرّة للتحوّل قوّةً منفصلةً في القرار، مترابطةً في التكوين العقائدي، جاهزةً للاستدعاء في المساحات الرمادية من الجغرافية الإقليمية. فهؤلاء لا يستقرّون في الانتماء المؤسّسي كما يُفترض، إنما يظلّون كتلةً تعبويّة يُمكن تحريكها خارج النسق الوطني، لا لخدمة الدولة، وإنما لتلبية مشروعات تتجاوزها. وهكذا لا يُعاد تدوير “المجاهدين” جنوداً وطنيين، وإنما يُحتفظ بهم قوّةً كامنةً، مستعدّةً للانتقال إلى بؤر نزاع جديدة كلّما استدعتها حسابات النفوذ.
قد لا تكون السلطة الانتقالية في سورية في منأى عن نماذج الدولة الهشّة التي أنتجتها النزاعات المعاصرة، إذ تتآكل فيها الحدود الصلبة بين الدولة والمجتمع، ويتحوّل الجهاز السيادي، في سياقات كهذه، مجرّد وسيط لتوزيع الامتيازات على أساس الولاء لا المواطنة، في مشهدٍ يُحاكي ما يسمّيه برتران بادي “الدولةَ الوكيل”، إذ تفقد الدولة وظيفتها السيادية المستقلة، وتتحوّل أداةً لتجسير مصالح القوى المهيمنة وشبكات النفوذ غير الرسمية، بدل أن تكون ضامناً للعقد الاجتماعي. وهنا تبرز أيضاً مقاربة “الدولة الزبائنية” بوصفها نموذجاً تفسيرياً لطبيعة السلطة الناشئة، التي تقوم على شبكات الانتماء التعبوي والمصلحي، المرتبطة بشخصيات نافذة، أو مرجعيات دينية عسكرية.
لم تعد المواجهة اليوم محصورة بالمقاتل الأجنبي، ولا بمشروع دمجه في المؤسّسة العسكرية السورية، وإنما تتجاوز ذلك إلى جبهة أعمق متمثّلة بتفكيك المنظومة الذهنية التي ترى في الجهادية نواة لدولة بديلة. فحين تُبنى الجيوش على أساس الطاعة العقدية، لا نكون بصدد ترسيخ مؤسّسات سيادية بقدر ما نعيد إنتاج نسخة معولمة من العنف، تخفي بداخلها مشروعاً يتخطّى مفاهيم الدولة وحدودها، ويرتكز على مرجعية دينية لا تعترف بشرعية السيادة الحديثة.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى