
مادلين” هذا الأسبوع، ليست تلك الكعكة الإسفنجية الصغيرة ذات الشكل الصدفي، التي نشأت في منطقة لورين شمال شرق فرنسا، وتحمل اسم الطاهية “مادلين بولمييه”، التي قدّمتها للملك لويس الخامس عشر ، فصارت جزءًا من التراث الفرنسي.
وهي بالتأكيد ليست الدبلوماسية الأميركية المخضرمة مادلين أولبرايت، ولا النجمة اللبنانية مادلين طبر، ولا حتى الطفلة البريطانية مادلين التي اختفت في البرتغال قبل عقدين وأثارت قضيتها جدلًا عالميًا.
“مادلين” اليوم، هي سفينة صغيرة أبحرت من صقلية نحو سواحل غزة، تحمل على متنها 12 ناشطًا، بينهم سياسيون وإعلاميون، لا يملكون إلا بعض الأدوية والكلمات. لكنهم كانوا يملكون بوصلتهم الأخلاقية ، ويحملون ما هو أثمن من السلاح: الضمير، والأمل . هي محاولة فردية تختصر حكاية صيّادة غزّاوية تُدعى مادلين كلّاب، عملت في صيد السمك منذ 2014 على قارب والدها، الذي قُتل في أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة في تشرين الأول 2023. بعد ذلك، دُمّرت قوارب مادلين وزوجها، وفقدا مصدر رزقهما الوحيد . فتحوّلت قصتها إلى رمز. رمز لمدينة فقدت كل شيء: الأمن، والطعام، والبحر.
أرادت مجموعة صغيرة من الشباب الغربيين والعرب أن تقول إن غزة ليست وحدها.
فتحركت البحرية الإسرائيلية مجددًا، كما فعلت مع “أسطول الحرية” قبل 15 عامًا، باتجاه المياه الدولية في المتوسط لاختطاف السفينة في عملية قرصنة جديدة، وجرّها إلى رصيف ميناء أشدود، لتتحول إلى رهينة بيد إسرائيل، تفعل بها ما تشاء، على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي.
لم تكن “مادلين” تنقل أسلحة، ولا تحمل شحنات تهريب، ولم تكن تتحرك في إطار عمل إرهابي.
كل ما في الأمر أنها كانت محاولة لحمل الأمل لأطفال غزة، وتفعيل الضمائر، فأفشلتها تل أبيب في المياه الدولية، متحديةً كل القواعد والمبادئ والأسس القانونية والاخلاقية . ولتعلن أن نتنياهو لا يخشى الكاميرات، ولا الكلمات، ولا صوت الإنسانية.
في حادثة مرمرة، نجحت أنقرة في تحميل تل أبيب المسؤولية المادية والمعنوية، لأنها أثبتت أن السفينة كانت تتحرك بشرعية وتحت علم دولة ذات سيادة. اليوم، في حادثة “مادلين”، رفضت بريطانيا – التي كانت ترفع السفينة علمها – الطلب الإسرائيلي بمنع انطلاق الرحلة، ما يُعتبر موقفًا سياسيًا واضحًا ضد شرعية الاعتراض.
لكن السؤال يبقى: كيف سيكون ردّ الدول المعنية؟ وهل سيتحول انتهاك القانون إلى مجرد خبر عابر، أم إلى تحرك دبلوماسي سياسي قانوني حقيقي؟ الوقائع تشير إلى خيبة أمل جديدة في ظل حسابات المصالح والربح والخسارة.
حين أبحرت “مادلين” نحو غزة، لم تكن مجرد مبادرة رمزية، بل اختبارًا شاملًا لأربعة معايير كبرى: الإنسانية، والسياسة، والقانون، والأخلاق. النائبة الأوروبية المشاركة في الحراك، ريما حسن، بدأت إضرابًا عن الطعام احتجاجًا على وضعها في عزل انفرادي داخل سجن إسرائيلي، بسبب ما كتبته على جدار زنزانتها: “الحرية لفلسطين ” . “مادلين” لم تصل إلى غزة، لكنها وصلت إلى القلوب.
الصور انتشرت، والأسماء باتت معروفة، والحصار – ولو مؤقتًا – تصدّر العناوين.
حين أبحرت “مادلين” نحو غزة، لم تكن مجرد مبادرة رمزية، بل اختبارًا شاملًا لأربعة معايير كبرى: الإنسانية، والسياسة، والقانون، والأخلاق.
فشلت “مادلين” في تحطيم الحاجز الإسرائيلي العسكري والسياسي رغم أنها لم تقترب منه كثيرًا، فالوحدات الخاصة الإسرائيلية هي من هاجمتها لمنع اقترابها من دائرة الحصار المفروض على غزة.
عجزت الحكومات والمؤسسات الدولية والإقليمية، فحاول الأفراد، لكن إسرائيل كانت لهم بالمرصاد.
هي كعادتها، لا تريد رسالة لا تناسبها؛ تريد منا الصمت، أو المديح، أو الحياد القاتل.
ربما تُحتجز السفينة، ويُرحّل الناشطون، وتُطوى الحادثة إعلاميًا بعد أيام، لكن الذاكرة التي حرّكتها “مادلين” لن تتلاشى بسهولة . فالتحرك هذا فضح تناقضات حادّة على ثلاثة مستويات: أولئك الذين اكتفوا بمتابعة ما يجري، المجتمع الدولي الصامت، وإسرائيل التي اختارت أن تصادر الضمير كما تصادر البحر.
كثيرون هم شركاء المؤامرة؛ فالقارب “مادلين” يُعد خطرًا وجوديًا، وتهديدًا لا يُحتمل بالنسبة لدولة تمتلك ترسانة عسكرية تُصنَّف من بين الأقوى في المنطقة.
تقول القاعدة: عند التخاذل الرسمي، لا يمكن للأفراد ومنظمات المجتمع المدني التردد.
لكن الواقع والممارسات تقول إن هناك خللًا ما، في مكان ما، داخل منظومة “القيم العالمية” المتعارف عليها. وأن الصمت في مواجهة المجاعة، ليس حيادًا بل انحيازًا للجريمة.
اختارت إسرائيل موقعها بوضوح:
ضد الأخلاق، ضد القانون، ضد الإنسانية.
في اعتراضها لـ”مادلين”، لم تصادر قاربًا فحسب، بل صادرت المعنى نفسه: أن تُحاصر الرحمة، ويُسجن الضمير، وتُعامل المساعدات كجريمة.
تحولت “مادلين” إلى امتحان بسيط، لكنه فاضح.
ألم يحن الوقت كي يأكل شعب غزة؟
تحركت “مادلين” للدفاع عن قواعد القانون الإنساني الدولي، لكن من يقف في الجهة المقابلة ليس نتنياهو وحده، بل شركاء التجاهل والصمت في مواجهة الحصار والانتهاكات.
اعتراض سفينة “مادلين” في المياه الدولية ليس فقط هجومًا على سفينة إنسانية، بل هو هجومٌ على منظومة القانون الدولي نفسها.
فكيف سيكون شكل رد الدولة التي ترفع السفينة علمها، أو ردّ الدول المتضررة خصوصا وأنه لم تعد من أولويات نتنياهو مسألة دفع حركة “حماس” للاعتراف بإسرائيل، أو الالتزام بالاتفاقات المبرمة بين منظمة التحرير الفلسطينية وتل أبيب، أو حتى التوقف عن اللجوء إلى المقاومة المسلحة؟
في حادثة “مرمرة”، نجحت أنقرة في تجريم تل أبيب وتحميلها الأعباء المادية والمعنوية لاستهداف الأسطول في المياه الدولية، ونقل سفنه بالقوة إلى الموانئ الإسرائيلية، لأنه كان يتحرك بشرعية ويرفع أعلامًا توفر له الحصانة. فمن الذي سيحاسب إسرائيل هذه المرة؟
لم تصل “مادلين” إلى غزة. لكنها وجدت طريقها إلى أفئدة الملايين . وصلت إلى وجدان الناس، وأيقظت أسئلة كثيرة حول معنى الحصار، والصمت، والضمير . تحولت “مادلين” إلى سؤال بسيط لكنه فاضح:
ألم يحن الوقت كي يأكل شعب غزة؟
لقد أرادت “مادلين” أن تقول شيئًا واحدًا في مواجهة الوحشية الإسرائيلية:
ألم يحن الوقت كي يُكسر هذا الحصار ولو بكلمة تليق بضمير الإنسانية؟
المصدر: تلفزيون سوريا