
لطالما شكّل الكُرد، بوصفهم أمة بلا دولة – بلغة الدكتور عبد العزيز المفتي- ، عقدة معقدة في خريطة الشرق الأوسط السياسية، وتاريخياً، لم تكن علاقة الولايات المتحدة بهذه القومية واضحة الحدود أو المبادئ، بل تبدو، في أفضل توصيف، علاقة تكتيكية مرهونة بالظرف لا المبدأ.
تُعد العمليات القتالية المشتركة حجز الزاوية في العلاقة بين واشنطن والقوى الكردية، فخلال ما سُميّ الحرب على “داعش” وُلد تحالف فعلي بين الولايات المتحدة وما يسمى بقوات حماية الشعب YPG التي طلبت منها الولايات المتحدة تغيير اسمها ليصبح قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والتي ضمت بالإضافة إلى مقاتلين من حزب العمال الكردستاني المدربين، مقاتلين محليين عرب وأكراد سواء متطوعين أو مجندين قسراً. في هذا الإطار، لم تكن العلاقة قائمة على الاعتراف السياسي أو الالتزام الاستراتيجي، بل على الفعالية العسكري الفورية لتنفيذ مهام قتالية “بريّة” نيابة عن التحالف الدولي.
في أطروحته حول السياسة الأميركية تجاه الحركات القومية، يوضح الباحث محمد سالم من جامعة جورج ميسون، أن العلاقة الأميركية مع الكُرد تُبنى غالباً على ثلاثة أدوات أساسية هي : القتال المشترك، والهوية السياسية المقموعة، والثقة الوجدانية ( (Affective Trust، ويفسر ذلك بأن التحالفات الأميركية مع المجموعات القومية، مثل الكُرد، غالباً ما كانت تقوم على الحاجة الأمنية لا الاعتراف السياسي. فالثقة تتكون في ميدان القتال، لكنها نادراً ما تترجم إلى التزامات طويلة الأجل.
الثقة الوجدانية: انطباع صداقة من دون التزام سياسي
غالباً ما تبني الولايات المتحدة لدى الحلفاء الكُرد انطباعاً بأنهم “شركاء في المصير”، خصوصاً عند مواجهة عدو مشترك كتنظيم داعش. لكنها، حين تعود لمصالحها الجيوسياسية الأشمل، تتراجع عن أي خطاب التزام، تاركة حلفاءها في حالة من الخذلان المتكرر. ظهرت هذه الديناميكية بوضوح عندما انسحبت القوات الأميركية فجأة من أفغانستان، وكذلك من مناطق سيطرة قسد في شمال شرقي سورية عام 2019، ما سمح لتركيا بشن عمليات عسكرية والسيطرة على مناطق جديدة وطرد قسد منها.
التوظيف التكتيكي لهوية مقموعة
الهوية الكردية، التي طالما كانت مقموعة على المستوى الشعبي في ظل أنظمة إقصائية، تُستخدم في السياسة الأميركية كوسيلة لشرعنة التدخل. تُقدَّم القضية الكردية في الخطاب الأمريكي أحياناً كقضية “ديمقراطية” أو “تحرر قومي”، خاصة في أروقة الكونغرس ووسائل الإعلام. لكن هذا التوظيف لا يتجاوز الطابع الرمزي، ولا يُترجم إلى دعم سياسي حقيقي للمطالب التي ينادي بها الكُرد كحق تقرير المصير -الذي لا ينطبق على الأكراد في سورية- أو الاعتراف بالإدارة الذاتية الكردية “روجافا” على مناطق يشكل العرب فيها الغالبية الساحقة. بل يتم في معظم الأحيان كبح هذا الخطاب عندما يتعارض مع مصالح واشنطن مع حلفاء آخرين مثل تركيا، ما يجعل الهوية الكردية أداة نفعية أكثر من كونها قيمة محمية.
غالباً ما تبني الولايات المتحدة لدى الحلفاء الكُرد انطباعاً بأنهم “شركاء في المصير”، خصوصاً عند مواجهة عدو مشترك كتنظيم داعش. لكنها، حين تعود لمصالحها الجيوسياسية الأشمل، تتراجع عن أي خطاب التزام، تاركة حلفاءها في حالة من الخذلان المتكرر
سياسات متعددة .. بحسب موضع الكُرد الجغرافي
الولايات المتحدة لا تتعامل مع القضية الكردية كملف موحد، بل تتبع تكتيكات مختلفة تبعاً للبلد الذي ينتمي إليه الكُرد.
في العراق، حافظت واشنطن منذ التسعينيات على علاقة قوية مع أكراد العراق، خاصة الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. هذا التحالف تعزّز بعد الغزو الأميركي عام 2003 ، لكن واشنطن عارضت الاستفتاء على الاستقلال الذي أعلن عنه مسعود البرزاني عام 2017، ما شكل خيبة أمل كبيرة لدى الكُرد.
في سوريا، تبرز قوات سوريا الديمقراطية باعتبارها الشريك الميداني الأساسي ضد داعش. وبالرغم من الدعم اللوجستي والميداني الكبير الذي تلقته هذه الميليشيات، إلا أنه ظل خالياً من الاعتراف السياسي بالإدارة الذاتية المعلنة من قبل هذه القوات أكثر من ثلاث مرات على الأقل، وبالتالي العلاقة هنا استمت بأنها “علاقة وظيفية محضة” تماماً كالعلاقة التي استخدم فيها بشار الأسد هذه الميليشيات منذ بداية الثورة، وكالعلاقة التي جمعت بين حافظ الأسد كذلك وهذه المنظومة التي كان لها شكلاً تنظيمياً واحداً حينها (حزب العمال الكردستاني) قبل تسليم عبد الله أوجلان، وبالتالي العلاقة الأميركية كانت محدودة بالتهديد الأمني من دون التزام، وسرعان ما تم تقليصها فعلاً بعد وصول السلطة الجديدة إلى دمشق وتبدل الواقع السياسي في سورية.
في تركيا، وبعكس سورية والعراق، تبقي واشنطن الملف الكردي بعيداً عن الطرح العلني بسبب حساسيات علاقتها مع أنقرة، وتصنّف حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية ورغم الاعتراف الضمني بتعقيدات القضية الكردية داخلياً في تركيا، إلا أن الضغوط التركية، وموقع أنقرة في حلف الناتو، يدفعان واشنطن لتجاهل هذا الملف بالكامل تقريباً.
أما أكراد إيران، فحضورهم في الخطاب الأميركي محدود جداً، بالرغم من أن أكراد إيران لديهم تاريخ نضالي طويل، والسبب ربما يعود إلى غياب القدرة العملية على دعمهم من ناحية، وكذلك نظراً لأولويات واشنطن المتعلقة بالملف النووي من ناحية أخرى.
بعد الأسد نهاية الورقة الكردية
مع التحولات المتسارعة في الملف السوري بعد سقوط نظام الأسد وبروز حكومة جديدة في دمشق، بدأت واشنطن بانتهاج سياسات منفتحة على الحكومة الجديدة على المستوى الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي، ومن أبرز مؤشرات هذا التحول قرار رفع العقوبات عن سورية، وتعيين مبعوث أميركي خاص، ولقاء ترمب مع الرئيس الشرع، ودفع واشنطن باتجاه الضغط على قسد لتوقيع اتفاق دمج قسد في مؤسسات الدولة السورية المدنية والعسكرية، وكذلك إعلان نيتها إغلاق معظم القواعد العسكرية باستثناء واحدة في التنف. هذا التوجه يشير إلى أن التحالف المؤقت مع قسد قد انتهى عملياً، وأن مرحلة جديدة بدأت تقوم على العمل مع الدولة المركزية ستصبح هي الأساس في ملفات الأمن ومكافحة الإرهاب. وهكذا تطوى صفحة العلاقة التكتيكية، وتًعاد صياغة أولوليات أميركا في سوريا من خلال الدولة، لا الميليشيات.
رهانات التكتيك وحدود الثقة
العلاقة بين الولايات المتحدة والكُرد كما وضحنا، لم تكن قصة تحالف استراتيجي بقدر ماهي سلسلة رهانات تكتيكية متبادلة، استفادت فيها واشنطن في السابق من القدرة الكردية في إدارة ميليشيات منظمة وظيفية تستطيع القتال وتنفيذ المصالح الأميركية من دون نقاش، في حين سعت أطراف الإدارة الكرديّة المرتبطة بحزب العمال الكردستاني بالمقابل، لتحويل الدعم المؤقت إلى اعتراف دائم. لكن هذا التوازن غير متكافئ، لذلك لم ينجح، وانكسر عند أول اختبار سياسي جاد.
تكشف هذه الديناميكيات عن منطق القوة في العلاقات الدولية، حيث تُحدد الجغرافيا والمصالح اللحظية شكل التحالفات، لا القيم أو المبادئ. وهكذا، يبقى الكُرد على هامش الاعتراف الدولي الكامل، في انتظار فرصة قد تأتي… أو تُجهض باسم “الاستقرار الإقليمي”.
المصدر: تلفزيون سوريا