اتفاق دمج المقاتلين الأجانب.. تحوّل في منطق إدارة الصراع أم اضطرار سياسي؟

بشار الحاج علي

في الثاني من يونيو الجاري، كشفت وكالة رويترز عن موافقة الولايات المتحدة على خطة تقدّمت بها السلطة الانتقالية في سوريا لدمج نحو 5000 مقاتل أجنبي، معظمهم من الإيغور، ضمن وحدة جديدة تحمل اسم “الفرقة 84” في إطار الجيش السوري الوطني.

خطوة أثارت تساؤلات حيوية حول أبعادها الأمنية والسياسية، خاصةً أن هذه الفئة من المقاتلين كانت – حتى وقت قريب – تُدرج في صلب لوائح الاستهداف الدولي، سواء بحجة الإرهاب أو الانتماء إلى تنظيمات عابرة للحدود، ما يجعل إدماجها اليوم في مؤسسة وطنية، تحت مظلة توافق دولي، تحوّلًا لافتًا في مقاربة إدارة الملف السوري.

هذه التطورات تفرض قراءة متأنّية تتجاوز منطق الإدانات المسبقة أو الترحيب المتسرّع. فالسلطة الانتقالية الناشئة في دمشق، التي وجدت نفسها أمام تركة أمنية بالغة التعقيد، لا تبدو وكأنها تعيد إنتاج الدولة وفق النموذج المركزي القديم، بل تسعى إلى بناء نموذج انتقالي قادر على احتواء ما أمكن من مفاعيل ما بعد الصراع، دون أن تدخل في مواجهات مباشرة مع قوى ما زالت تحتفظ بمشروعية السلاح أو رمزية النفوذ الميداني. من هذا المنظور، يمكن النظر إلى الاتفاق بوصفه تعبيرًا عن دولة تتشكّل على وقع الموازين لا المواقف، وتعيد رسم خارطتها المؤسسية من خلال التفاهم لا الحسم.

هذا الترتيب، على وجاهته السياسية، لا يخلو من مخاطر ميدانية وأمنية جدّية، فدمج مقاتلين سبق لهم الانتماء إلى تنظيمات ذات مرجعيات عقائدية مغلقة في مؤسسة وطنية يُفترض أنها تقوم على الولاء للدولة.

اللافت في هذا السياق ليس فقط طبيعة المقاتلين المعنيين، بل القبول الدولي بهذا الترتيب.

الولايات المتحدة، التي لطالما تبنّت نهجًا صارمًا في التعامل مع المقاتلين الأجانب، وافقت هذه المرة على إدماجهم داخل بنية الجيش الوطني، شريطة أن يخضعوا لرقابة أمنية صارمة، ويُسحب سلاحهم تدريجيًا في إطار عملية إعادة التأهيل العسكري.

هذا القبول الأميركي لا يعكس بالضرورة تحوّلًا في المبادئ، بقدر ما يعكس إدراكًا متزايدًا بأن الانخراط المباشر في مسارات العزل والتصفية لم يعد عمليًا أو قابلًا للتطبيق، لا سياسيًا ولا لوجستيًا، خصوصًا في ظل ما خلّفته سنوات النزاع من تشابك عضوي بين الفصائل، والجغرافيا، والمجتمعات المحلية.

بهذا المعنى، فإن التحوّل الذي نرصد ملامحه لا يتعلق فقط بالجانب السوري، بل بزاوية الرؤية الدولية إلى طبيعة الحل في سوريا. فبدلًا من التركيز على هندسة دولة مثالية من خارج السياق، يجري الآن الاستثمار في إدارة ما هو ممكن، حتى لو تطلّب ذلك إدماج عناصر كانت إلى عهد قريب تُعتبر جزءًا من المشكلة الأمنية. هذا لا يعني تبرئة هذه العناصر، بل يعني ببساطة تكييف منطق بناء الدولة مع تعقيدات الواقع، حيث لا يوجد فصل نقي بين العدو والحليف، ولا بين ما هو شرعي وما هو ممكن احتواؤه. وما يجري اليوم هو إعادة تعريف “الشرعية” ذاتها: ليس بوصفها مفهوماً قانونيًا صرفًا، بل كأداة تكيّف سياسي وظيفي.

لكن هذا الترتيب، على وجاهته السياسية، لا يخلو من مخاطر ميدانية وأمنية جدّية، فدمج مقاتلين سبق لهم الانتماء إلى تنظيمات ذات مرجعيات عقائدية مغلقة في مؤسسة وطنية يُفترض أنها تقوم على الولاء للدولة، يتطلب ما هو أكثر من إعادة توزيع للمهام أو إعادة هيكلة شكلية، إنه يتطلب إعادة صياغة للعقيدة القتالية، وتأهيلًا نفسيًا وسياسيًا يضمن انتقالهم من منطق الجماعة إلى منطق الدولة، وفي غياب هذا الجهد العميق، فإن “الفرقة 84” قد تتحوّل إلى كيان موازٍ داخل الجيش، لا يخضع بالضرورة لسلطة مركزية، بل يحتفظ بولاءات فرعية قد يُعاد تفعيلها عند أول أزمة.

إن نجاح هذا النموذج سيظل مشروطًا بقدرة النخبة الجديدة على ضبط إيقاع التوازن بين ضرورات الأمن ومتطلبات الشرعية.

الانعكاسات الإقليمية لهذا الاتفاق لم تتأخّر، فالصين، التي تعتبر ملف المقاتلين الإيغور مسألة أمن قومي، تتابع بقلق هذه التطورات، ولو من خلف الستار. وفي حال غياب ضمانات واضحة حول إخراج هؤلاء من الحلقات العابرة للحدود، فقد تعيد بكين النظر في طبيعة انخراطها المستقبلي في الملف السوري، لا سيما فيما يتعلق بالمشاركة في إعادة الإعمار أو تطبيع العلاقات مع السلطة الانتقالية.

أما تركيا، التي راكمت علاقات متشابكة مع فصائل المعارضة السورية، فتشعر بأن ترتيبات كهذه تُجرى خارج حساباتها، ما يضعها أمام معادلة جديدة: إما التكيّف مع بنية أمنية سورية لا تمر عبرها، أو إعادة تموضعها بشكل يضمن لها نفوذًا في مشهد آخذ بالتبلور دون العودة إلى خرائط النفوذ القديمة.

في هذا المناخ، تبرز السلطة الانتقالية كمحور تفاوضي لا كلاسيكي، تُدار فيه السلطة كمنظومة توافقات متعدّدة أكثر منها كهرم قرار واحد. من هنا، فإن الاتفاق الأخير لا يمكن فصله عن مشهد أوسع يتكوّن في دمشق؛ حيث يُعاد تشكيل الدولة على قاعدة براغماتية تحاول أن تجمع بين التهدئة الميدانية، والتفاهمات الخارجية، وإعادة إنتاج مؤسسات الأمن والجيش، ولكن بشكل يعترف ضمنًا بأن الدولة السورية – في شكلها الذي كان – قد انتهت، وأن المطلوب اليوم ليس استعادتها، بل إنتاج نسختها الممكنة.

وعلى ضوء كل ذلك، لا يمكن النظر إلى هذا الاتفاق كحدث تقني يخص هيكلية الجيش السوري فحسب، بل هو لحظة سياسية فاصلة في سياق إعادة بناء الدولة السورية. فمنذ اندلاع الأزمة قبل أكثر من عقد، لم تكن المعضلة في “من يحكم”، بل في “كيف تُبنى الدولة” وسط تشظيات ما بعد الحرب. واليوم، تقدّم السلطة الانتقالية نموذجًا أوليًا لما يمكن تسميته “إدارة الفوضى المنتجة”، حيث يجري استيعاب التناقضات بدلًا من استئصالها، ويتم التفاوض مع الواقع لا تجاوزه.

مع ذلك، فإن نجاح هذا النموذج سيظل مشروطًا بقدرة النخبة الجديدة على ضبط إيقاع التوازن بين ضرورات الأمن ومتطلبات الشرعية. فلا الاستقرار وحده يكفي لبناء دولة، ولا الاحتواء وحده قادر على تحويل جماعات مسلّحة إلى نواة مؤسسة وطنية. وبين الأمرين، ستتحدّد ملامح سوريا الجديدة، لا بوصفها استعادة لماضٍ انتهى، بل كتحوّل هادئ – ومرن – نحو دولة تتّسع للواقع دون أن تذوب فيه.

المصدر: تلفزيون سوريا

تعليق واحد

  1. دمج نحو 5000 مقاتل أجنبي، معظمهم من الإيغور، ضمن وحدة جديدة تحمل اسم “الفرقة 84” في إطار الجيش السوري الوطني، خطوة لها ايجابيات وسلبيات، هي تقدير للأخوة المقاتلين الذين شاركو بالتحرير وتأمين إستقرارهم لمن يرغب وعوائلهم بعد منحهم الجنسية السورية، ليحولوهممن مقاتلين بدون الإستقرار الى الإستقرار وإحتوائهم بالوطن السوري، ضمن عقيدة الجيش السوري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى