أســـــــــــــــرار كــــيــــــســــــــــنــــــجــــــــــر .. الــــــمــــــثـــــــيــــــــرة

محمد خليفة

بعد مقابلته المميزة والشهيرة العام الماضي مع الرئيس أوباما والتي عنونها ( عقيدة أوباما ) أجرى الصحافي الاميركي البارز جيفري جولدبيرج كبير محرري صحيفة (اتلانتيك) مقابلة مطولة نشرها قبل ايام مع هنري كيسنجر أشهر وزراء خارجية اميركا , وأبرز رجال الفكر السياسي في تاريخها المعاصر وعنونها ب ( دروس كيسنجر ) .

هذه المقابلة الغنية بالتقييمات والملاحظات حول الشؤون الدولية وتحدياتها أمام الرئيس المنتخب ترامب تتجاوز كونها سردا لأفكار رجل موسوعي وخبير , بل هي في حد ذاتها ( حدث ) بارز تجب قراءتها بعمق , لما تتضمنه من قراءة لواقع العلاقات والاوضاع الراهنة في العالم .

قبل كل شيء تعيد المقابلة تذكيرنا بكيسنجر (ثعلب واشنطن العجوز) ودوره النافذ في توجيه سياسة بلاده الخارجية بلا انقطاع رغم تقاعده رسميا قبل نصف قرن , وبلوغه من العمرعتيا ( 93 سنة) ! , ومع ذلك فالمقابلة تشير الى توقد ذهنه ومتابعته للشؤون الدولية كما لو انه ما يزال وزير خارجية . ويعلن ما يشبه السر المثير : لقد عمل بلا انقطاع مستشارا غير رسمي لجميع الرؤساء الاميركيين باستثناء الاخير أوباما الذي استغنى عنه لأنه لا يكن له ودا فقط لا لسبب آخر . ولكن جولدبيرج كشف أمرا مثيرا آخر يتعلق بتأثر اوباما بكيسنجر رغم عدم الود تجاهه . يقول إنه حين اجرى المقابلة مع اوباما وسمع بعض اجاباته( أحس بطيف كيسنجر معهما في الغرفة) إذ كان يرد احيانا وكأنه يرد على كيسنجر وافكاره التي يعارضها .. !!

 ويكشف الرجل – المعجزة أنه منذ عام 1955 وحتى اليوم يشارك في صنع سياسة اميركا الخارجية بدرجات متفاوتة , وهذه المدة قياسية بكل المعايير ربما تؤهله ليكون ( أهم صانع سياسة خارجية في تاريخ اميركا )على الاطلاق , حسب تعبير الصحافي جولدبيرج . ويكشف هذا أن كيسنجر رافق السيدة هيلاري في حملتها الانتخابية منذ اليوم الاول , ودعمها بقوة , وكان معجبا بمؤهلاتها , ولا سيما رؤيتها الشمولية للشؤون الدولية . ويصفها بالوحيدة بين المرشحين للرئاسة التي تستوعب النموذج التقليدي لدور أميركا في العالم ولا تعاني من عقدة الانعزالية . وهذا ما يدفع جولدبيرج للقول عن علاقة كلينتون بكيسنجر : هي أقرب اليه اديولوجيا ونفسيا من قربها لأوباما الذي عملت معه اربع سنوات , ومن قربها لزوجها بيل كلينتون . إذن هي تلميذة نجيبة للمدرسة الكيسنجرية . وهذه الصورة تبدو دقيقة بمقارنة مواقفها وافكارها خلال سنوات خدمتها في الخارجية من مختلف المسائل الدولية , بما فيها استعمال القوة في سورية ضد الاسد , وهي النقطة التي اختلفت فيها مع الرئيس وسببت خروجها من الادارة قبل اربع سنوات .

 كيسنجر في ( دروسه ) لجولدبيرج يعيد الحديث عن مبدأ استعمال القوة كعنصر اساسي في الديبلوماسية ويسخر من مفهوم اوباما للديبلوماسية كبديل عن القوة, بينما يؤكد العجوز المخضرم أنها (جزء من الديبلوماسية) ويتحتم اللجوء اليها عندما تتعطل البدائل والوسائل العادية , ولا ينسى القول إن اللجوء للقوة يجب ألا يكون اعتباطيا لمجرد هزيمة الخصم , بل يجب أن تكون ضمن رزمة أدوات , واستراتيجية سياسية تقوم على ثلاثة عناصر : امتلاك القوة , وامتلاك الارادة لاستعمالها في الوقت المناسب وبالمستوى الضروري , ويجب الا تكون ورقة تنافس لأغراض محلية . وهو من هذا المنطلق انتقد ادارة بوش الابن لأن تدخلها في العراق وأفغانستان تم بناء على نظرة اقتصرت على هزيمة العدو ولم تهتم بما يلي ذلك , أي اقامة نظام جديد يتبنى قيم الديمقراطية وحقوق الانسان . وفي نفس الوقت ينتقد بشدة اوباما لعدم استعمال القوة ضد الاسد , سيما بعد استعماله للاسلحة الكيماوية وتجاوزه لخطوط اوباما الحمر , مما أفقد اميركا مصداقيتها العالمية, وهي عنصر فائق الاهمية لدور اميركا العالمي ومكانتها ورسالتها .

 ويكشف كيسنجر سرا بالغ الاهمية . هو أن جون كيري الذي عارض الحرب الفيتنامية قبل خمسين سنة واختاره اوباما ليقود دبلوماسيته اللاعنفية في سورية انتهى في العام الاخير الى قناعة بحتمية اللجوء للقوة ضد الاسد حتى يمكن للحل السياسي أن ينجح , وقال إنه قضى العام الاخير محاولا اقناع أوباما بهذا الخيار . واضاف كيسنجر إنه يحترم كيري على هذا الموقف الشجاع ويسخر من الرئيس بقوله : انه يتفاخر بالاستحقاقات التي منع حدوثها أو القيام بها ) !

يرى كيسنجر أن النظام العالمي يمر بحالة ضعف , والفوضى العارمة تسود العالم , وينحي باللائمة على ادارة اوباما , ويحذر من القادم إذا لم يكن ترامب قادرا على اعادة تصحيح الخلل . وهو غير متفائل بقدرته , ويقول الصحافي إن كيسنجر شعر بالرعب عندما اعلن فوز ترامب . ولكنه الان يطالب بمنحه فرصة قبل الحكم عليه , ويرى أن العالم بحاجة لسياسة نشطة لتخفيف مستوى الفوضى في العلاقات الدولية , ثم العمل بكفاءة لاعادة بناء النظام العالمي على مبادىء متوافق عليها بين الجميع , ويشدد على ضرورة أن يكون نابعا من رؤية اميركا ومفاهيمها كما كانت منذ الحرب العالمية الثانية وختى اليوم , ويحذر من مخاطر الانكفاء ويرى ضرورة استمرار الدور الاميركي في قيادة العالم .

  ويعتقد كيسنجر أن اساس التوازن العالمي في المستقبل هو التفاهم الاميركي – الصيني الذي كان له الفضل والسبق في تدشينه عام 1972 للمرة الاولى , ويرى الآن أنه يجب أن يرتكز على تطوير العلاقات الاقتصادية بينهما , ويحذر من اعلان ترامب عزمه على شن حرب تجارية ضد الصين , لأنه سيضر بمصالح الطرفين ويهدد الاستقرار العالمي . ولكي تتمكن اميركا من قيادة العالم كما كانت دائما (عليها أن تعيد الايمان بنفسها) أي بقدرتها ورسالتها . ويحذر ايضا من أن تتحول عقيدة اوباما الى سياسة ثابتة على الصعيد الخارجي تستمر بعده .

 ويرى أن اميركا أمام خيار حاسم : هل تواصل دورها العالمي أم تتراجع للعزلة , وهذا خطير جدا .

´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´

 

هذا المقال منشور في ( مجلة الشراع اللبنانية ) العدد ( 350 ) الصادر بتاريخ 18 – 11 – 2016 . لذا وجب التنويه .   

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى