
قُيَّض لأبناء الشعب السوري أن ينالوا من جديد فرصةً أخرى للعمل الجادّ، تؤهّلهم لوضع بلادهم على السكّة التي توصلها إلى مرحلة التعافي. وتمثَّلت الفرصة السابقة في المرحلة التي تلت إسقاط النظام وهروب رئيسه بشّار الأسد خارج البلاد، وما تلاها من احتضان دولي لقضيتهم، وظهور استعداد لدى المجتمع الدولي، ونيّة صادقة لدى الدول الشقيقة، للأخذ بيد السوريين لحلّ مشكلاتهم وأزماتهم من أجل القطع مع المرحلة السابقة، استعداداً لمرحلة إعادة البناء وتضميد الجراح وجبر الخواطر، وسيادة القانون والبدء بمسار العدالة الانتقالية، لتأسيس دولة المواطنة التي حُرم منها السوريون على مدى أكثر من نصف قرن. وإذ لا تتكرّر فرصٌ من هذا النوع دائماً، وحين تتكرّر قد لا يجد المحظوظون بتكرارها من يقف في جانبهم لمساعدتهم في الاستفادة القصوى ممّا توفّره، إذا لم يكونوا أهلاً لها، فإن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الإيعاز برفع العقوبات يُعدّ تغييراً لافتاً في الموقف الأميركي، ويُعدّ في الوقت عينه تحدّياً لحكومة الرئيس أحمد الشرع، وفرصةً لحلّ أزمات البلاد التي ورثتها من النظام السابق، التي لم تُعالج، فتوالدت أزماتٍ جديدةً.
قبل خطاب ترامب في الرياض في 13 مايو/ أيّار الجاري، وكلامه عن رفع العقوبات عن سورية حين قال: “سأصدر الأوامر برفع العقوبات عن سورية لمنحهم فرصةً للنجاح”، سلَّم كثيرون بصعوبة (وربّما باستحالة) رفع العقوبات الأميركية والغربية عن سورية، وفقدوا الأمل في حصول ذلك بسبب الشروط الأميركية المفروضة من أجل رفعها، وعجزت الحكومة السورية عن تحقيق عددٍ منها، وإن كانت ستحقّق بعضها، فإن الأمر سيستغرق وقتاً طويلاً. غير أن إعلان الرئيس الأميركي كان بمثابة الريح التي حرّكت هذا الملفّ، وأزالت الركود الذي اعتراه. وكانت الجُمَل والعبارات التي ساقها ترامب حينها كفيلةً بإعادة ضخّ الأمل في عروق السوريين، وإعادة الألق الذي فارق عيونهم بعد أسابيع من سقوط النظام، نتيجة الإحباط الذي لحقهم، وبعدما تأكّدوا أن ما عوّلوا عليه في مرحلة ما بعد الأسد قد تبدّد.
وأكمل ترامب كلامه حول سورية فقال: “حان وقت تألّقها، سنرفع العقوبات جميعاً، حظّاً موفّقاً سورية، دعونا نرى منكم شيئاً مميّزاً للغاية”. وكانت هذه الخاتمة بمثابة شرطٍ آخر، بعدما اعترف أن قراره ذاك لم يكن ليصدر منه لولا الجهد الذي بذله كلّ من ولي العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في هذا السياق. فهو أراد إعادة تأكيد الشروط التي وضعتها الإدارة الأميركية بعد سقوط نظام الأسد وطُلب من حكومة الشرع تنفيذها قبل رفع العقوبات. غير أن حالة الستاتيكو التي بات السوريون عليها جعلتهم بحاجة إلى دفعةً كهذه من ترامب، وأضيف إلى هذه الدفعة كلامه الذي قاله على هامش اللقاء الذي جمعه مع الشرع وولي العهد السعودي، وكذلك الرئيس التركي عبر تقنية الاتصال المرئي، وأعلن فيه خطواتٍ لإعادة العلاقات بين بلاده ودمشق، ونيّته دعم السوريين، والوقوف إلى جانبهم في مرحلة إعادة الإعمار.
على الحكومة السورية القطع مع عقلية النظام السابق الإقصائية، وقد كان فصل مئات الآلاف من وظائفهم تكراراً لتلك العقلية
إذاً، من جديد وضع ترامب الكرة في ملعب السوريين، فهو يعلم وهم يعرفون أن رفع العقوبات لن يكون من دون ثمن أو عمل من جانبهم. لذلك أكّد المتحدّث باسم الخارجية الأميركية توماس بيغوت، تعليقاً على الموضوع، أن هدف ترامب من رفع العقوبات هو تحقيق السلام طويل الأمد في المنطقة. لذلك، سيُربَط الأمر بتحقيق الاستقرار، ووقف الفلتان الأمني، علاوة على محاربة الإرهاب، عملاً بقانون العدالة ضدّ رعاة الإرهاب المعروف بـ”غاستا”، وقانون مكافحة الكبتاغون لعام 2022، الذي فُرض على النظام السوري، والذي يتقاطع مع جهود قطع مصادر تمويل الإرهاب. كما أن رغبة ترامب “برؤية الازدهار يعمّ المنطقة” منوطة بقضايا حقوق الإنسان. وفي حالة سورية، يرتبط هذا الأمر بقانون قيصر والأوامر التنفيذية الرئاسية الأميركية التي سبقته وصدرت سنتَي 2011 و2012، والمتعلّقة جميعها بانتهاكات حقوق الإنسان في سورية. لذلك فإنّ انتهاكات مثل تلك التي حصلت بداية مارس/ آذار الماضي في الساحل، وتلك التي تبعتها في جرمانا وريف دمشق والجنوب السوري، إذا ما تكرّرت، فستكون معيقةً للازدهار المأمول، وحينها قد يصرف الأميركيون نظرهم عن التعامل مع السوريين، لعلمهم أن ليست ثمّة جدّيةً لديهم في التعاطي مع هذه القضايا لحلّها.
ماذا لدى حكومة الشرع من أدوات للاستفادة من الفرصة التي ظهرت فجأة وسط جوٍّ من فقدان الأمل في سورية، وأعادت الأمل إلى السوريين؟… ذلك متوقّفٌ على تحقيق ما طالب به السوريون أنفسهم بعد سقوط النظام، من مطالب وحقوق، وخطوات لإعادة توحيد البلاد، وقانون عصري ودستور يكفل الحقوق، ونظام مصرفي متطوّر، وبيئة تحتية متينة، وقوانين استثمار تؤسّس بيئة استثمار مستقرّة. كذلك، البتّ في القضايا المعلّقة، التي لم يسهم تشكيل حكومة جديدة في البلاد في البتّ فيها، فأدّى ذلك إلى انتهاكات على أساس طائفي، وإلى حالة غليان طائفي سادت البلاد، وجعلتها حتى قبل أيّام من إعلان ترامب على حافة حرب أهلية فعلية، وهي الحرب التي كانت محتدمةً في وسائل التواصل الاجتماعي، ولم تفعل الحكومة شيئاً من أجل وقفها وتجريم من يحرّض طائفياً ومناطقياً فيعمل لإشعالها.
بيئة من الاستقرار الأمني شرطٌ رئيسٌ للشركات التي ستنقل استثماراتها إلى سورية للمساهمة في عملية إعادة البناء والتنمية
على الحكومة السورية القطع مع عقلية النظام السابق الإقصائية، وقد كان فصل مئات الآلاف من وظائفهم تكراراً لتلك العقلية، عندما اتبعت الحكومة أسلوب العقاب الجماعي، فخسرت الكوادر المُؤهَّلة، إذ لم يكن كلّ موظّفي الدولة منتهكين أو تابعين للنظام أو فاسدين، ومن كان منهم فاسداً، فإن الراتب الضحل الذي يتقاضاه لا يعدو أن يكون أقلّ من راتب البطالة، لا يؤمّن له سوى ثمن ربطة الخبز ومصاريف التنقّل. كما أن محاربة الفساد تكون بإقرار قوانين عصرية وتنفيذها وإجبار الجميع، بغضّ النظر عن مواقعهم، على الانصياع لها. ومن المهامّ، محاربة الفلتان الأمني والانتهاكات على أساس طائفي وإغلاق ملفّ المعتقلين والمغيّبين وتطبيق مبدأ العدالة الانتقالية وإنصاف الضحايا. كما أن هنالك ضرورة الدمج الفعلي للفصائل، وتأسيس جيش عصري يكفل الانضباط التام لعناصره، وتأسيس جهاز شرطة على درجة من المعرفة بقوانين حقوق الإنسان والقانون السوري، ومزوّد بكاميرات لمنع التجاوزات وتوثيق عمليات الضبط، لأن بيئة من الاستقرار الأمني شرطٌ رئيسٌ للشركات التي ستنقل استثماراتها إلى سورية للمساهمة في عملية إعادة البناء والتنمية.
مهامّ كثيرة تقع على عاتق الحكومة السورية لكي تستطيع امتلاك الأدوات للاستفادة من الفرصة التي باتت بيدها حتى لا تضيع، ومن التغيير الأميركي الذي قد لا يتكرّر، وإن تحقّق الآن، فإنه قد لا يستمرّ بعد أشهر. أمّا الملفّات العالقة فشديدة الوضوح، لا تحتاج الحكومة مستشارين وأحزاب ونقابات وإعلام لكي تدلّها عليها. أمّا المعالجة، فالشفافية والتشاركية واستغلال الكفاءات وتوظيف طاقات الجميع وجهدهم، والحرّية في الإشارة إلى الأخطاء لتجاوزها، هي الكفيلة بنجاح مسارها. قال ترامب للسوريين: “دعونا نرى منكم شيئاً مميّزاً للغاية”، أمّا ما ينتظره السوريون، وأجيالهم المقبلة، من حكومتهم الحالية، فهو ثمار هذا الشيء المميّز، إن قُدّرت للشعب السوري أيضاً رؤيته.
المصدر: العربي الجدي