عن حاجة سوريا لأبنائها المخلصين

حسن النيفي

خلال سنوات مضت من عمر الثورة، حدث أن اضطربت بوصلة المشهد الثوري واكتظ الوسط الإعلامي لمناهضي نظام الأسد بكثير من النقاش الحاد الذي ربما وصل أحياناً إلى درجة الانقسام والاصطفاف في أنساق متباينة في المواقف، ليس لتغيير طال بنية نظام الأسد ولا لتغيّر في قناعات الثائرين بوجهه، بل بسبب دخول لاعبين جدد إلى مسرح الأحداث، الأمر الذي يؤدي إلى اختلاط الأوراق وازدياد الأفق ضباباً قد يحول دون رؤية الأمور كما هي، وإلى أن يصبح الأفق أكثر جلاءً وتتبلور الحقائق، يكون السوريون قد أهدروا مزيداً من الوقت في تلاطم في المواقف، تبيّن فيما بعد أنه كان يمكن تحاشي ذاك التلاطم أو الاستغناء عنه.

اليوم ، وبعد أن انتهى الوسط الثوري السوري من الانتشاء بزهوة النصر، يعود من جديد ليدخل مرحلة أخرى من التلاطم، ليس لأسباب موضوعية ذات صلة بلاعبين جدد أو لأحداث وافدة إلينا من الخارج، بل لعلّة، أو علل، كامنة في دواخلنا، كنّا قد طننّا أنها تلاشت إلى غير رجعة، ولكنّها تباغتنا من جديد، وأظنّ انها سوف تبقى تباغتنا على الدوام طالما ما يزال تفكيرنا وسلوكنا يمضي وفقاً لمنهج ( التهاوش على الصيدة ) وذلك على الرغم من جميع البراقع التي نحاول التلطّي خلفها، وعلى الرغم من امتثالنا الشكلي لجميع الموضات الفكرية والثقافية التي نحاول تقمّصها، وكأن الدم السوري الذي نزف طوال أربع عشرة سنةً لم يقنعنا بأن الأثر الذي خلّفته أرواح السوريين سواء الذين قضوا في مواجهة الطغيان الأسدي على جبهات القتال أو من قضوا في قصف طيرانه أو في البحار أو في أماكن النزوح واللجوء، ما تزال هي الأكثر حضوراً والأقدر على البقاء من شعوذات السياسة ومواربات المنافقين وتخرّصات المؤدلجين الذين لا يريدون حتى الآن مواجهة الحقيقة التي مفادها: (الشعب السوري انتصر وأسقط الطاغية الأسدي).

أن يكون لك رأيك وتحليلك الخاص في مجريات معركة ( ردع العدوان) وتوقيتها والظروف الدولية والإقليمية الموازية لتلك المعركة، وكيف انعكست المتغيّرات في المواقف الدولية، وتبدّل المصالح بشكل إيجابي على القضية السورية، فهذا من شان التفكير السليم والمشروع، ذلك أن الأرض السورية – وخلال أكثر من عقد – كانت مسرحاً لصراع المصالح والاحتراب على النفوذ بين الدول، ثم إن مواجهة السوريين لنظام الأسد لم تكن تجري في فضاء معزول عن العالم، بل كانت المواجهة ضمن بقعة جغرافية هي الأكثر حساسيةً من الناحية الأمنية في الشرق الأوسط، من جهة أنها نواة الأمن والاستقرار في المنطقة، فمن الطبيعي أن يكون أي تغيير نوعي يطول مصيرها مرتبطاً بمصالح الدول النافذة وموازين القوى القائمة على الأرض، أمّا حصافة أصحاب القضية من الفاعلين السياسيين والعسكريين معاً، ورجاحة تفكيرهم والحكمة في التصرّف، فإنما تكمن في القدرة على استثمار ما هو إيجابي في المحيط الإقليمي والدولي واستغلال الفرص التي تتيحها التحوّلات في المصالح والمواقف الدولية، وكذلك استغلال الثغرات ونقاط الضعف لدى العدو، ومن ثم اتخاذ المبادرة في الوقت المناسب، ولعل هذا ما حدث غداة أطاح السوريون بنظام الطاغية الأسدي.

أمّا أنك لا ترى في هزيمة (الأسدية) في سوريا سوى تنفيذٍ أمينٍ لأجندة دولية، وتطبيق فعلي لمخطط قد رسمته الدول، ولم يكن الثوار السوريون سوى أداةٍ تنفيذية فحسب، وتحسب أنك بهذه السردية تستطيع تجريد خصمك الأيديولوجي ( الحاكم ) من ميّزة لا تريدها له، إن كان الأمر كذلك، فهذا ضربٌ من الوهم بل إمعانٌ في السذاجة قبل أن يكون جحوداً أخلاقياً واهتراءً قيمياً، إذ إنك بهذا المنحى من السلوك لا تطول خصمك الذي تتوهّم، بل تتطاول على مُنجَزٍ عظيمٍ لجميع

السوريين، وليس بمقدور أحد ادعاء حيازته وحده، حتى إن الجهة العسكرية التي دخلت قصر الطاغية الهارب لم تدّعِ تفرّدها في هذا المُنجز، ثم إن إقرارك بالنصر، حتى إن كان المُنتصِر خصماً لك، لا يسلبك الحق في الإبقاء على خصومتك، ولا أحد يجبرك على أن تعطيه صكّاً بالبراءة ممّا تراه فيه من مساوىء، ولا أن تمنحه صكّاً بالوطنية التي تظن أنك – وحدك – من تحتكرها، فالإبقاء على الخصومة تجاه طرفٍ ما، انسجاماً مع رؤية سابقة سواء أكانت صحيحة أم خاطئة، أهون بكثير من التطاول على تضحيات شعب جاد بأثمن ما يملك من أجل استعادة حريته وكرامته.

فالذين انطلقوا من الشمال السوري نحو دمشق، مروراً بحلب فحماة فحمص، وسائر المدن والبلدات السورية، هم من أبناء سوريا، من مدنها وبلداتها وقراها ومخيماتها، هم من دخلوا دمشق مُحرّرين، وهم من هزم جيش النظام وقواته، وتقدّمهم بثبات واندفاع فيه كثير من الشجاعة هو من جعل رأس النظام يولّي هارباً منهزماً هزيمةً تليق بمن أجرم بحق السوريين طوال نصف قرن.

أمّا امتناع الروس والأميركان عن استهداف قوات ( ردع العدوان ) وعدم التعرّض لها نتيجة لتبدّل المواقف والمصالح، فهذا لا ينتقص من مشروعية الثورة السورية ولا يطول عدالتها بسوء، ولا يقلّل من شان انتصارها، إذْ ليس العار حين تتخلّى الدول عن مناصرة نظام مجرم أوغل بدم شعب كامل، بل العار، كلّ العار على الدول التي أسهمت بقتل السوريين طوال أربع عشرة سنة، سواء بفعل مباشر كروسيا وإيران، أو من خلال صمتها وتجاهلها لجرائم النظام البائد ، كبقية الدول الكبرى الأخرى، فهل كان ينبغي علينا أن نتوجّه بالشكر إلى من كان يقتلنا طوال أكثر من عقد، لأن مصالحه اقتضت التوقف عن قتلنا؟ وبالتالي هل كان على الشعب السوري أن يهدي نصره العظيم إلى روسيا وأميركا، لأن الأولى تكرّمت برفع الوصاية عن نظام الأسد، والثانية لأنها ملّت من الرهان على تغيير سلوك الأسد طوال السنوات السابقة وأيقنت بضرورة أو جدوى زواله؟.

أنْ تكون معارضاً للسلطة الحاكمة، فهذا حقك الذي لا ينازعك فيه أحد، وأن تكون دائم الانتقاد لسلوك السلطة فهذا واجبك الأخلاقي وليس السياسي فحسب، لكن شريطة أن تستلهم ضميرك وصدقك من حيث الوقائع الدّالة وليس اللجوء إلى المبالغات واختلاق وقائع لا وجود لها أو تزييفها بهدف التجييش والتحريض، فالمبالغة وتحييد الحقائق هي إهانة للحق و للضحية قبل أن تكون انتصاراً على الخصم. وأنْ تجهرَ بكرهك للحاكم – شكله أو طباعه أو سلوكه الحياتي الشخصي – فهذا كشأن الآخر حين يُعجَب بما تكرهه ولا دخل لجميع ذلك بمكانته الاعتبارية، فالحاكم، أيّاً كان منصبه، ينبغي أن يكون في سوريا الجديدة موظفاً، إن أحْسنَ فهذا واجبه ولا منّةَ له على أحد، وإنْ أساء فتنبغي مساءلته.

أن تسعى أو تدعو إلى تغيير نظام الحكم، فهذا حقك، لكن شريطة أن يكون مسعاك أو دعوتك مقرونة بحاجة للصالح العام من جهة، وكذلك شريطة أن يشاطرك هذه الحاجة قطّاع واسع من الشعب، باعتباره صاحب المصلحة الحقيقية في التغيير، إن جميع دواخلك الأيديولوجية والسياسية والثقافية تصبح شأناً عامّاً إن استطعتَ أن تجعلها جزءاً من قناعات الناس، أمّا الاستمرار في تصيّد الوقائع بغية إعادة إنتاجها وفقاً لما تشتهيه مُتَوهِّماً أنه سيغدو صواباً في قناعات الآخرين، فهذه سمة المفلسين الذين لا يملكون سوى الرهان على فشل الخصم.

سوريا اليوم بلد شديد النزف، محطّم، مسكون بكل أشكال البؤس، شعبها موجعٌ حدّ الإنهاك، وكما أنّها بحاجة إلى حكّامٍ مخلصين ومتفانين للنهوض بها، كذلك هي بحاجة إلى معارضين مخلصين غيورين على مصالح شعبهم، وبتعزيز حضور ودور هذا الصنف من المخلصين ( من الحكّام والمعارضة معا) يمكننا تجاوز الثنائية القاتلة: ( مُطبّلين – حاقدين مُحرّضين).

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى