هل تريد دمشق نجاح زيارة الشرع إلى باريس؟

عمر قدور

لا تنقص ماكرون مهارات الدبلوماسية الغربية، فهو أجّل رسالته الأساسية ليقولها في ختام مؤتمره الصحافي مع الشرع. حيث كانت له الكلمة الأخيرة، وفيها ردّ على منتقديه في فرنسا بسبب دعوته الشرع إلى باريس، موضّحاً أن من مقتضيات العمل الدبلوماسي استقبال من لا يكون ثمة اتفاق معه، وأنه أجرى مع ضيفه حواراً مفيداً، لكنه صارم. لينهي مداخلته بالقول: سنرى ما سيحدث في الشهور الستة المقبلة.. إن لم تأتِ الأفعال وفقاً للأقوال سنعيد النظر.

قبل ذلك، نوّه ماكرون بإجراءات اتخذها ضيفه، منها التصدي لحزب الله، والتصدي لداعش، وخفض كبير في إنتاج الكبتاغون. والملفت في الأمر أنه أشار بذلك إلى إنجازات لا تخص الداخل السوري، على الأرجح في دلالة على عدم الرضا باستثناء إشارته إلى اتفاق الشرع مع قسد، وهو ما أشار إليه أيضاً في كلمته السابقة على أخذ أسئلة الصحافيين. وكان في كلمته الافتتاحية تلك قد ركّز على الشأن الداخلي السوري، مطالباً بمشاركة سياسية أوسع للسوريين، وبمحاكمة مرتكبي المجازر الأخيرة.

أشار ماكرون إلى رمزية أن تكون باريس أول عاصمة غربية تستقبل الشرع، ولا شكّ في أن هذه الرمزية كانت طاغية من خلال الاهتمام الإعلامي المواكب لها. وهي محمّلة بالتأكيد بالوضع الخاص للضيف، فهناك قادة أحزاب عبّروا صراحة عن اعتراضهم على دعوة الشرع، واسترجعوا تاريخه الجهادي كوصمة يُفترض بها منع استضافته، وإن كان بعض الانتقادات لا يصدر حقاً عن مبدئية سواء إزاء حقوق السوريين في عهد الأسد، أو إزاء فكرة الإرهاب نفسها، فبعض المعترضين يكنّ الودّ لبوتين من دون حساسية إزاء ما فعله في الشيشان وفي سوريا وأوكرانيا… إلخ. هذا ما دفع ماكرون إلى القول أن الاعتراض على دعوته الشرع هو للتكسب السياسي الداخلي ليس إلا.

لكن تبقى رمزية الزيارة هي الأكثر طغياناً على الجانب السوري، حتى يصح تماماً القولُ إن السوريين لم يُظهروا اكتراثاً بمجريات اللقاء نفسه، أو بالمؤتمر الصحافي الذي تلاه، أو حتى بالنتائج المتوقَّعة لاحقاً. المهم من وجهة النظر هذه أن دعوة الشرع تنطوي على الاعتراف به، أي منحه شرعية دولية، وهذا بالطبع ما يرضي أنصاره ويزعج الخصوم. وفي الخلفية ثمة ما يجعل الرمزية ذات مغزى إضافي مع استذكار استقبال بشار الأسد من قبل شيراك، في الإليزيه قبل وفاة أبيه وتسلمه الرئاسة بشهور، وقد حدث ذلك حينها بوساطة من الرئيس الراحل رفيق الحريري، وأثار استياء في الأوساط السياسية الفرنسية.

المزاج السوري السائد إزاء فرنسا كان سلبياً بمعظمه خلال السنوات الماضية، فمنذ الثورة انتعشت محاولات تأريخ جديدة، ترمي على فرنسا بمسؤولية تمكين الأقليات من الحكم في سوريا أثناء مرحلة الانتداب، بل تنص على أن الجيش السوري أنشئ على نحو طائفي منذ أيام جيش الشرق في الحقبة ذاتها. للإسلاميين أيضاً أسبابهم ومن المعتاد، باستثناء هجوم الحادي عشر من سبتمبر، أن تُهاجَم السياسة الأميركية من قبل الجهاديين، في حين ينفّذون عملياتهم الإرهابية في فرنسا. في خلفية هذا العداء لفرنسا هناك التاريخ الذي بموجبه توقفت الفتوحات الإسلامية عند بواتييه في فرنسا، والحافز الآخر المباشر أن العلاقة بين إسلاميي تركيا وفرنسا ليست جيدة، وهو ما يؤثّر بالسوريين المقرّبين من أنقرة.

يُذكر أن العلاقة بين الأسد وفرنسا لم تكن أيضاً على ما يرام، فهي علاقة الضرورة منذ أدخل قواته إلى لبنان في منتصف السبعينات برضا أميركي آنذاك، وصار اللاعب الأكبر في الساحة التي ترعاها فرنسا تقليدياً. لا توجد في سوريا منجزات ذات وزن تدل على علاقة جيدة مستدامة مع فرنسا، وعيْن الأسد الأب ثم الابن كانت طوال الوقت على واشنطن وتل أبيب. ومن المعلوم أن الابن تحديداً كان سخيّاً في الوعود التي قدّمها لفرنسا قبل وبعد تسلّمه الرئاسة، إلا أنه تنصّل منها كلها؛ على صعيد الإصلاح السياسي والإداري، وعلى صعيد الاستثمارات في مجال النفط، وغير ذلك مما كذب فيه.

والحق أن المزاج نفسه كان حاضراً مؤخراً بين نسبة كبرى من السوريين ترى أن المباركة الفرنسية للعهد الجديد خطوة مفيدة معنوياً، بينما الاهتمام منصرف بثقله إلى المباركة الأميركية التي يُنظر إليها كجائزة حقيقية وتطويب للسلطة الجديدة. أيضاً هذا التصور معطوف على رأي راج خلال السنوات الماضية يرى أن باريس كانت بوابة بشار الأولى إلى الغرب، أما تطويبه الفعلي فتمّ في الاجتماع المغلق بينه وبين مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية، لمناسبة حضورها لتقديم العزاء بأبيه.

وثمة فيما قاله ماكرون في المؤتمر الصحافي ما يوحي بخلاف مع واشنطن حول الأولويات، مما لا يروق لنسبة كبيرة من مؤيدي السلطة التي لا تُعرف حتى الآن توجهاتها. فماكرون أعلن عن نيّته التوسّط لدى واشنطن من أجل رفع العقوبات الأميركية، في حين أفصح عن تفضيله بقاء القوات الأميركية التي يشكّل وجودها مظلة حماية لقسد. وكانت الأخبار الواردة من واشنطن مؤخراً قد أفادت بأن إدارة ترامب تفكّر في سحب قواتها من شرق الفرات، ومنح دمشق إعفاءات مضبوطة من العقوبات الأميركية، بعضها لمدة ستة شهور قابلة للتمديد، وبعضها الآخر بموجب استثناءات تُمنح لمرات محدودة.

كان واضحاً في المؤتمر الصحافي أن ماكرون يعلن عن توقعاته من الحكم الجديد في سوريا، وموضوع التغيير في هذه الحالة يمكن وصفه بأنه حقاً بِناءٌ جديد للعلاقة بين الجانبين. أهم ما في الأمر أن العلاقة المستجدة هي بطبيعة الحال متحررة من وطأة التأثير السوري في لبنان، وحساباته المرجِّحة تالياً في الدبلوماسية الفرنسية، حتى يجوز القول إن العديد من السياسات الفرنسية “القذرة” من منظور السوريين كانت بتأثير المصالح الفرنسية في لبنان. لقد ظلّ ذلك الشبح مخيّماً حتى مع انسحاب القوات السورية من لبنان، إذ بقي نفوذ الأسد موجوداً رغم رحيل قواته، ولو أنه كان مسنوداً في جانب مهم منه بسطوة حزب الله.

الفصل بين سوريا ولبنان يعطي المسعى الفرنسي الحالي جدية أكبر، وإن وُضعت في واجهته مصالح فرنسية تتعلق بالأمن ومحاربة داعش، وملف اللاجئين الحاضر في حسابات الاتحاد الأوروبي ككل. البعض في سوريا يعتقد أن باريس تسعى إلى حصة من كعكة إعادة الإعمار، وهو ما قد يحتمل الصواب بالإضافة إلى مشروعيته في عالم المصالح. الأهم في جميع الملفات ما أشار إليه ماكرون بدبلوماسية إذ قال إنه يثق بالشرع ويعتمد عليه، فالعلاقات الفرنسية مع الأسد تخللها الكثير من انعدام الثقة، وباريس بحاجة إلى مناخ الثقة لبناء علاقة مستدامة.

بالطبع، يتمنى ماكرون النجاح لمسعاه، لكن ذلك يتوقف على الحكم في دمشق، وما تسمح به طبيعته. الأمر ليس كما كانت تصوِّره الثقافة السياسية الدارجة لجهة وجود مطالب يمسّ بعضها بالسيادة الوطنية، أو كما تصوّرها انتهازية العلاقة مع الخارج والحصول على أمكن من مكاسب بَخْسة مع قصر نظر فيما يخص علاقات أكثر رسوخاً. المحك هو في الخلاص من ذلك الإرث، وفي القدرة على أن تكون سوريا جزءاً من العالم، ومن ثقافة العصر، وأن تبني علاقات خارجية متوازنة بناء على ذلك، وهذا استحقاق تأخر عقوداً بسبب رغبة الأسد في تسوير سوريا كمزرعة خاصة به.

لم يكن بلا مغزى قولُ ماكرون: “كنا دائماً إلى جانب الكرد لأنهم كانوا دائماً إلى جانبنا”. فهو يشير إلى طبيعة العلاقة التي يريدها مع دمشق. هي من هذه الزاوية فرصة حقيقية تتجاوز الحمولة المعنوية الحالية، والقرار المنتظر من دمشق مزدوج، لأنه يقتضي الإرادة وتحدي القدرة على التغيير.

المصدر: المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى